العرب وسوريا.. قبل فوات الأوان
فيصل الشبول
يبذل الأردن جهوداً متصلة لتحقيق حدٍّ أدنى من توافقٍ عربيٍّ تجاه سوريا. يتولى جلالة الملك بنفسه إحياء تضامنٍ عربيٍّ فقدته الأمة منذ عقود، ودفعت ثمنه غالياً وما تزال.
يعمل جلالته ليلَ نهارَ، ويتواصل مع الأشقاء والأصدقاء لضمان استقرار سوريا والحيلولة دون الفوضى.
منذ أن فقدت جامعة الدول العربية صورةَ الجامعة والقراراتِ التوافقيةَ الإجماعيةَ لمصلحة المنتدى الخطابي وقراراتِ المغالبة قبل أكثر من أربعة عقود، وُضِعت القضايا العربية والقطرية في عهدة المجتمع الدولي، الذي تشظى بدوره إلى هيئةٍ عامةٍ تنحاز إلى العدل من جهة (الجمعية العامة)، ومجلسِ أمنٍ بات يمثل الصورةَ الأوضحَ للغطرسة والفيتو والانحياز إلى الظلم.
لم يتعافَ العراق منذ أربعة عقودٍ ويزيد، شهد خلالها القتلَ والدمارَ والحقدَ والكراهيةَ والتشظيَ العرقي والطائفي والمعاناةَ الاقتصادية والاجتماعية. وفوق هذا وذاك، التدخلاتِ الخارجيةَ والاستقطاباتِ … والفساد.
السوريون مرهقون، أتعبتهم الحروبُ والفوضى والدمارُ والانقساماتُ والانهيارُ الاقتصادي، ناهيك عن انعكاساتِ الحرب النفسية والاجتماعية والمادية.
تحالف النظام السوري السابق إبّان الثورة السورية مع طرفين، اكتشف أن أياً منهما أقوى منه داخل سوريا: روسيا من جهة، وإيران وحزب الله من جهة ثانية. وتخاصم مع طرفين داخل سوريا وجوارها: القوات الأميركية شرق الفرات، وتركيا على حدودٍ طولها أكثر من 900 كيلومتر.
ضعف نفوذ إيران وحزب الله جرّاء الحرب الأخيرة، وتراجعت أولوياتُ روسيا التي حددتها في بدايات مفاوضات جنيف الأولى وحتى الرابعة، والتي يمكن تلخيصها بثلاثة أولويات روسية: الحفاظ على القواعد العسكرية، والاستمرار بتسليح الجيش السوري، وحصةٍ في إعادة إعمار سوريا. تراجع الأولويات الروسية، وبضمنها استمرار التسليح وإعادة الإعمار، مرتبط بالتطورات العالمية، وفي مقدمتها الحرب الروسية الأوكرانية.
بالنتيجة، فقد سقط نظام الأسد، وبات السؤال عن اليوم التالي، أي عن مستقبل سوريا، وإلى أي مدى تستطيع أن تعيش من دون نظام سياسي أو بنظام سياسي لا يمثل كلَّ سوريا وكلَّ السوريين.
الطرف الأسوأ في المعادلة اليوم هو إسرائيل، إذ يشعر قادةُ الاحتلال وحكومتُه المتطرفة أن الفرصة سانحة لإحداث واقع جديد في سوريا عبر عدوانه المتواصل على قواعد الجيش السوري، وتدميرِ المؤسسات الأمنية، واحتلالِه مزيداً من الأراضي السورية في الجولان وجبل الشيخ وربما أبعد من ذلك.
ما الذي يستطيع العرب أن يقدموه لسوريا اليوم؟ وما الذي يأمله السوريون أصلاً؟ ومن هم المؤهلون والراغبون بتقديم خدماتهم من دون شروط؟
لنبدأ من جوار سوريا. فلبنان غرق في أزمةٍ تلو الأخرى، وآخرها الحرب المدمرة التي شنها الاحتلال عليه. والعراق لديه الكثير من التحديات الداخلية والتدخلات الإقليمية. وتركيا، التي ساهمت بشكل مباشر في الأحداث الأخيرة باعتراف مسؤوليها، لديها الكثير من المصالح والهواجس أيضاً.
يبدو الأردن الطرف الأكثر قدرة على لعب دورٍ موثوقٍ لمساندة سوريا، شريطة أن يحظى بدعمٍ عربيٍّ ودوليٍّ، وقبولٍ من مختلف الأطراف السورية.
تحتاج سوريا إلى سلام داخلي متين ومستدام، إلى دستورٍ جديدٍ يفضي إلى نظام حكمٍ وبناءِ مؤسساتٍ قوية، إلى إعادة بناء ما دمرته الحرب، وإلى طمأنة السوريين، جميعِ السوريين، لمستقبلهم ومستقبل أبنائهم في وطن يعيش فيه الجميع على قدم المساواة.
الأردن هو الأقرب إلى سوريا، وهو الذي لم يعبث بأمنها واستقرارها. هو الذي يعرف الشعب السوري الشقيق، وهو الذي استقبل الأشقاء من دون منّةٍ أو تمييز. وهو أيضاً الذي نصح النظامَ السابق بالعفو غير المشروط عن مواطنيه، وطمأنةِ اللاجئين للعودة إلى وطنهم الأم، لكن النظام لم يستمع، وللأسف، أخطأ التقديرَ والحسابات.
البدائل في التعامل مع سوريا الجديدة لن تكون إلا على حساب العرب والسوريين، وقد تنثر بذور فتنٍ يمكن أن تنبت في أي وقت مستقبلاً، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالنموذج الدستوري الذي قد لا يناسب سوريا على المدى الطويل، والإشارة هنا إلى قانون بريمر وما تبعه في العراق حتى اليوم.
الدور العربي ما زال ممكناً. وإذا قرر الأشقاء العرب عدم إضاعة الفرصة في سوريا، فأعتقد أن الأردن سيكون أمام مهمة ثقيلة، إلا أنه سيؤدي واجبه القومي بكل اقتدار، ولكن قبل فوات الأوان.
تقف سوريا اليوم على حافة الاستقرار، أي على حافة الفوضى أيضاً. وإذا ذهبت إلى الدم مرةً أخرى، فإن العودة إلى الاستقرار في المنطقة ستأخذ زمناً طويلاً، ومزيداً من القتل والدمار واليأس والكراهية. ولن يعود السؤال عن دور عربي مسألةً ذات أولوية قصوى.
نقلاً عن “الدستور”