(260) ألف أردني: هذه الأحزاب لا تمثلنا

3

يذهب ( 260) ألف مواطن أردني، ممن يحق لهم الانتخاب، ‏الى مراكز الانتخابات، يأخذون أوراق الاقتراع المخصصة للقائمة العامة ( الحزبية)، ثم يتوجهون للصندوق ويضعون فيه « أوراقاً « بيضاء، هؤلاء يشكلون أكثر من 18% من الذين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية التي جرت قبل نحو شهرين ونصف، فلماذا فعلوا ذلك، ولمن توجهوا في تصويتهم العقابي؟
هذا السؤال يبدو وجيها، ليس فقط لأن هذه العينة الكبيرة امتنعت عن التصويت، فلدينا نحو 3,5 ملايين ناخب امتنعوا أيضا، ولكن لأنها كشفت لنا صورا أخرى غير تلك التي عكسها الذين جلسوا في منازلهم، ولم يحمّلوا أنفسهم مشقة الخروج، أو الوقوف أمام الصناديق، ما يعني أن هؤلاء الذين يمثلون هذه العينة انتخبوا فعلا، ومارسوا حقهم القانوني، وربما الأخلاقي، بالاقتراع، لكنهم اشهروا «لا « كبيرة بوجه الأحزاب والمترشحين على قوائمها، و ربما بوجه قانون الانتخاب، والمناخات السياسية والاجتماعية، والحزبية أيضا.
هذه « الأوراق البيضاء « التي أشهرت « لا «، ‏يمكن أن تفهم بأكثر من سياق، اولا، سياق عدم الاقتناع بالأحزاب الوليدة والقديمة معا، ولا بالأسماء والبرامج ( لا توجد برامج أصلا)، فبعض الذين ترشحوا، نزلوا ببراشوت المال السياسي، او كانوا من أصحاب « الكفاءات « المتواضعة، لا يوجد لديهم أية برامج واضحة، ولا يوجد للأحزاب التي ترشحوا على قوائمها هوية محددة، او قاعدة شعبية، كما أن دوافعهم للترشح اغلبها نفعية او وجاهة اجتماعية، وبعضهم إفراز لاحزاب « اختبأت « خلف عشائر، او ( بزنس) او وجوه مكررة لم تقدم أي إنجاز.
يمكن أن يفهم، ثانيا، في سياق « تبرئة « الذمة، فهؤلاء الناخبون تعهدوا أمام مرشحين وأحزاب تربطهم بهم روابط اجتماعية أو مصلحية، أو التزموا بعهود قطعوها على أنفسهم، أن ينتخبوا، وقد فعلوا ذلك إبراءً للذمة، ولكنه ابراء «منقوص»، وإن كان يرفع عنهم العتب الاجتماعي أو الضغوطات الاجتماعية.
يمكن ان يفهم، ثالثا، في سياق « الكيد « الذي يمارسه ‏بعض الناخبين تجاه احزابهم او بعض المترشحين على قوائمها، سواء من جهة الوعود المغشوشة بدافع الانتقام، أو بدافع الحصول على ثمن مقابل أو منافع، او لأنهم غير راضين عن طريقة اختيارهم، وهؤلاء الذين فعلوا ذلك، انحازوا لسلوكيات لا أخلاقية، وأعتقد أن عددهم ليس كبيرا.
يمكن ان يفهم في سياق رابع، وهو « المجاملات» الاجتماعية ‏التي تدفع بعض الأردنيين إلى ممارسة نوع من « الشيزوفرينيا «، إذ يضمرون داخل أنفسهم بعض المشاعر والقرارات والقناعات، لكن سرعان ما يفعلون عكسها، سواء بدافع ضميري، أو لحسابات أخرى غير مفهومة أحيانا.
كما يمكن أن يفهم في سياق عدم معرفة الناخبين للأحزاب الناشئة والجديدة، وبالمقابل رفض التصويت للأحزاب المعروفة والقديمة، تصور هنا لو صبت هذه الأصوات في خزان حزب جديد مقنع، كيف ستكون النتائج، وكيف سيتم كسر معادلة ( الغلبة) لأي حزب نجح بملء الفراغ وتسّيد المشهد.
ثمة سياقات أخرى، ‏لكن كلها تصب باتجاه « لغة « احتجاج متنوعة اللهجات على التجربة الحزبية بشكل ادق، و ربما على الواقع أيضا، المهم أن نفهم رسائلها، ونتعامل معها بمنطق آخر، غير الذي سمعناه من بعض المسؤولين حول عزوف الأغلبية من المواطنين عن الانتخابات، استنادا لتصنيفات « الكتلة « الفاعلة وغير الفاعلة، فهؤلاء «فاعلون» نظريا، لكنهم معطّلون « بكسر الطاء وفتحها معا» عمليا، وهؤلاء صرفوا يأسهم وإحباطهم بعملة أخرى، لم نألفها في أسواق الاحتجاج المتداولة.
« 260» الف ورقة بيضاء، رقم كبير، وربما « لغز « كبير، ‏يحتاج لمن يفكه سياسيا واجتماعيا، ولو كان لدينا مراصد علمية اجتماعية، أو صحافة استقصائية، لتحركت على الفور لاسعافنا بفهم ما حدث، وما دام ذلك لم يحصل حتى الآن، فإن من واجب كل الجهات المسؤولة في بلدنا، أن تضعنا أمام تفاصيل أخرى لخرائط الانتخابات، لنكتشف حالة مجتمعنا التي تتعمق داخلها إبداعات وفنون الاحتجاج، على حساب العمل والإنتاج، ولنعرف، ايضاً، مستقبل مسار التحديث السياسي، وتجربة أحزابنا التي بنينا على أساسها هذا المسار، وما يجب أن نفعله لتصويب الأخطاء في الأيام القادمات.

نقلا عن “الدستور”
قد يعجبك ايضا