العلويّة وتُهمة التّكويع السياسي
أزهر الطوالبه
يُشير مفهوم “التّكويع السياسيّ” إلى التّغييرِ المُستمِر في المواقِف السياسيّة ؛ تبعًا للظُروفِ والمصالح الشخصيّة. هذا التّغيير في المواقف قد يُصبح مرتبِطًا بالتَّحوّلاتِ في النظام السياسيّ، خاصةً، إذا ما كانَ النّظام السياسيّ، عُرضةً للتّغييرِ بناءَ على مواقفٍ ومُطالباتٍ شعبيّة ؛ كالحالةِ السوريّة مثلًا. ففي هذه الحالَة، وتحديدًا، بعدَ سيوولِ المُتغيّراتِ الّتي عصفَت بسوريا، وكانَ أبرزها، رحيل نِظام الأسَد، الّذي تركَ وراءهُ الكثيرَ مِن الفئات، دُفِعَت، فورَ سيطَرة “سُلطة” جديدة على البلاد، لتغيير مواقفها وآرائها ؛ وذلكَ بما يتواءم مع مصالِحها المُتولِّدة مِن واقعها الجديد.
بَعض هذه الفئات، إن لَم تكُ كلّها، اتُّهِمَت، مِن قبلِ جزءٍ من السوريين، بالانتهازيّة أو “التّكويع”، والجزء الآخر، لم يتّهمها بشيء، بل رأى هذا التحوّل وفقَ منظور “الواقعيّة السياسيّة”، واعتَبرَ بعضَ هذه الفئات، رافضةً لنظامِ الأسَد -الّذي جثمَ على عُنقِ الدّولة السوريّة، لخمسينَ سنة ونيّف- وليسَ للدّولةِ السوريّة بشكلٍ عام.
مُصطلحُ “التّكويع السياسيّ” هذا، يمكِن أن يُرى، مِن قبل بعض السوريين، على أنّه صفةٌ حقيقةٌ للكثيرِ مِن المُتاجرينَ بثورَتهم مِن أبناء شعبهم، وأنّه الأدقّ تعبيرًا، والأكثَر تفصيلًا للكثير مِن “مُتقلّبي المواقف”. لكن، بذات الوقت، قد يكون وصف فئة، بشكلٍ عام، بهذه الصّفة، فيهِ ظُلمٌ كبير، كما قد ينمّ عن عدم فهمٍ لأحوالِ وظُروف مَن “نُعتوا” بهذا الوَصف، ولا أخالُ أنّني أُبالِغ، أو أن أدخِل نفسيَ في طورِ الدّفاع، إن قلتُ:” أنّ من أهمّ هذه الفئات، فئةٌ مِن الطائفةِ العلويّة”. فهذه الفئة عانَت الأمرّين مِن حُقبَتي الأسدَين ؛ الأب والابِن، وقلّة هُم الإخوَة السوريينَ الّذينَ لهُم إطّلاع على مُعاناة هذه الفئة ؛ وذلكَ لأنّ الطّابِع العام في سوريا، كانَ يوحي بأنّ العلويينَ هُم مَن ثبّتوا دعائمَ وجود عائلة “الأسد” في الحُكم، لأكثر مِن خمسينَ سنة. وهذا قولٌ مغلوط ؛ رؤيةٌ وتصوّرا. إذ أنّ هناكَ الكثير مِن الدّمشقيينَ والحلبيينَ والأكثر، مِن ساكِني درعا، كانَ لهُم الدّور الأبرَز في تدعيمِ وترسيخِ وجود عائلةِ “الأسد” على سُدّة الحُكم في سوريا.
إنَّ المُطّلِع على تاريخِ العلويينَ في سوريا، وفي السّاحِل، تحديدًا، يعي جيدًا أنّ هذه “الطائفة”، كغيرها، عانَت مِن ظُلمِ حُكم عائلةِ “الأسد”، وأنّ القَول “المُطلَق” بأنّ حُكم “آل الأسد” كانَ مدعومًا مِن “كُلّ” الطائفة، هو قولٌ لا أركانَ لهُ. نعم، هناكَ عوائلٌ علويّة كانَت تدّعم وجودَ هذا الحُكم، وكانَت مُنتَفعة منهُ، كما هو الحال بالنّسبة لبعضِ العوائلِ القاطِنة في كُلٍّ مِن “حلَب” و”دِمشق”. لكن، ليسَ بوسعِ أحد أن يُنكِرَ قمعَ النّظام لأفرادٍ، بل لعوائلٍ علويّة تقليديّة (آل ماخوس، آل النّقري)، كانَت تُمثّل مرجعيّة دينيّة وروحيّة للطائفة. فهناكَ ممّن نُكِّل بهم، وتعرّضوا للمُلاحقة، ومِن ثمّ سُجنوا لسنيينٍ طويلة. وعلى سبيلِ المثال، أذكُر منهُم: عبد العزيز الخير، بدويّ الجبل، محمّد عبّود. وهذا الأخير، قالَ لي أحد الأصدقاء السوريين، وهو معارضٌ سياسيّ، أنّهُ لفظَ آخر أنفاسَ حياتِه وهو تحت التّعذيب في السّجون السوريّة. هذه الأسماء العلويّة، تعرّضَت لتعذيبٍ بشِع، وضُيِّقَت حيواتهم عليهم، وسُدَّت كُلّ سُبُل العَيش، فقَط لأنّهُم كانوا مِن ذوي الآراء السياسيّة المُناهِضة للنظامِ الاستبداديّ، بل أنّ بعضهم تعرَّض لكُلّ ذلك، لمُجرَّد انتمائهم للعوائلِ الّتي كانَت تُعارِض النِّظام.
وفي ذاتِ السّياق، فقَد يقول البَعض بأنَّه في فترةٍ مِن أشدّ فترات الصِّراع، وهي الفترَة الّتي دخَلت فيها كُلّ فلول الشّر العالميّ والإقليميّ إلى سوريا، وعلى رأسها “داعِش”، كانَ هُناكَ دعمٌ مُطلَق من قبلِ جميع العلويين لنظامِ الأسَد السّاقِط. نعم، قَد يصدُق هذا القَول. لكن، نظرَة منطقيّة وعقلانيّة، مِن قبلِ قائله، تجعلهُ يقِف “مطوّلًا” عندَ الظُروف الّتي أُحيطَت بهم، آنذاك. وهُنا، كانوا أمامَ خيارَين، إمّا أن يسلّموا أنفسهم ل”الدّواعش” وكُلّ مَن يروّج لخطابٍ مُتطرِّف، بعيدًا عن مصلَحة السوربين، وإمّا أن يقِفوا بصفٍ الدّولة، الّتي بالتأكيد، كانَ الخَوف عليها مِن التفكُّك، وليسَ ودًّا أو حُبّا أو دعمًا للنِّظلم بعَينه.
وهُنا، لا بُدّ على السّوريين أن يُدرِكوا أنَّ هناكَ ضرورة لفهمِ تعقيداتِ الوضِع في بلدهم، والتّأكيد على أنَّ المواقِف السياسية تتغيَّر استجابةً للظُروف.
وأيصًا، عليهِم ألّا يهمّشوا مواقفَ المُعارَضة العلويّة، الّتي كانَت جزءًا مِن التّاريخ السّوري السّياسي. فهذه الفئةُ، أيضًا، تعرَّضت للظُلم والقَمع على يدِ النّظام.
وأخيرًا، أقول للإخوة السّوريين، الآتي:
تحت الإعتقادِ الشخصيّ بعدَم تِكرارها مُستقبلًا، إذا ما ضُيِّعَت الآن ؛ فإنَّ كُلّ شيءٍ يوكّد على أنَّ ما يعيشَه السوريونَ هذه الأيّام، هي حياةٌ فارِقة بالنّسبة إليهِم، بل وللمِنطَقة ككُل. فعلى السوريينَ أن يستغلّوها جيّدًا، وأن ينظِّموا شؤونهُم، كما يُريدونَ هُم، لا كما تُريد لهُم الدُّول المُتصارِعة على مصالِحها في الجغرافيا السوريّة. وذلكَ لا يكون إلّا بأمورٍ كثيرة، عليهِم أن يُدرِكوها، بشكلٍ جيّد، وأن يُسارِعوا إلى ترجَمتها في سلوكيّاتهم. لكن، بالنّسبة لي، هناكَ أمران مُهمّان، على السوريينَ أن يقدّمانهُما على الأمور الأخرى..والأمران هُما:
– التّأكيد المُطلَق على الاتّفاق السوريّ بتجاوز مسألة صناعة “ديكتاتور” جديد، يكون بمظهرٍ “شعبيّ”. فسوريا لا تحتاج إلى دكتاتور آخر يحكمها. كما أنّها ليسَت بحاجة إلى صنمٍ يحكمها.
– على السوريينَ أن يحبّوا بعض، وأن يتجاوزوا كُلّ ما صنَعهُ النّظام السّابق بهم، مِن تعزيزٍ للطائفيّة، وتدميرٍ لهُم بتولِية شؤونهم لما يجيدونَ إدارتها. وهذه نقطةٌ ستشكّل ضغطًا شعبيّا “إيجابيّا” على ما سيتولّى إدارَة سوريا الجديدة، مفاده، أنّ السوريينَ لن يتخلّوا عن تضّحياتهم الّتي قدّموها على مدار عقدٍ ونيّف.