ليتنا نفهم الدرس
إذا صدقت الأنباء، فسيبدأ تنفيذ قرار وقف إطلاق النار بين اسرائيل وحماس الساعة الثامنة والنصف صباح غد. وحينها سيكون أمام أهل غزة وللمرة الأولى منذ 15 شهراً، فرصة لالتقاط الانفاس، والتحديق طويلاً أمام بلادهم التي لم تعد سوى جبال من ركام، ويحاولون فهم ما جرى لهم طوال هذه المدة، ويتحسّسون جراحهم و أجسادهم وأرواحهم، ويتفقّدون أحبتهم، من رحل منهم ومن بقي، وحينها فقط، سيكتشفون أن أعمارهم، مهما طالت، لن تتسع لبكاء بحجم كل هذا الحزن والألم.
لا أكترث بالعنتريات التي تملأ الفضائيات العربية وتقيّم نتائج الحرب وفقاً لهواها وهوى مموليها، ولست من عشّاق قصائد الدجل وادعاءات البطولة الزائفة والنصر الذي اكتشفنا أن له وجهاً آخر، هو وجه الموت والدمار والذل والهوان والانكسار، فإذا كان هذا هو النصر، فيا مرحباً بالهزائم!.
لا أملك الحق في الحديث نيابة عن أهل غزة، لكني أملك الحق في الحديث لأطفالنا وشبابنا في الأردن والمنطقة، انطلاقاً من قناعتي وخلاصة تجربتي، فما جرى في غزة طالنا في بيوتنا وفي أسرنا وفي كل مفاصل حياتنا.
أقول لهؤلاء الشباب والأطفال: النصر الحقيقي هو أن نفهم الدرس، ولا نعيد اجترار الفشل، ولا نسلّم مصائرنا لقادة مهووسين بالحماقات ولا يرون أبعد من أنوفهم. النصر الحقيقي في أن نستعيد إنسانيتنا، ونزيل التشوهات التي لحقت بمفاهيم اطفالنا وقيمهم وتصوراتهم عن الحياة والنضال الناجز من أجل الحقوق وعن الانتصار الحقيقي لا المتوهم، وكيف أن المنطق والعلم والقوة المسنودة بالحق، لا العنتيرات ولا اللغة الخطابية الجوفاء ولا النضالات والنزالات من وراء الشاشات، هي التي بإمكانها أن تحقق النصر، وليفهموا أنهم ليسوا منذورين للموت المجاني، وأن الأجساد والأرواح أقدس ما نملك، وصونها وحفظ كرامتها سبيلنا للنصر الحقيقي. فالنصر ليس في سحق عظام أطفالنا، بل في عمل كل ما بوسعنا ليكونوا في مدارسهم، ويتلقون تعليمهم ويُعالجون في مستشفيات نظيفة ويأكلون وجباتهم بانتظام ويشربون مياهاً نظيفة، وينامون كما البشر ويحلمون بمستقبلهم ويرسمونه في دفاتر ملونة.
النصر الحقيقي ليس في تقبل الموت الأسود لنسائنا وشبابنا وشيوخنا تحت الركام دون أن نملك ما يسعفنا لاخراج جثثهم ودفنها كالبشر، ثم نعتبره “ثمنا مستحقاً لقضايانا”، كرامة الإنسان هي أعدل قضية نناضل من أجلها، النصر الحقيقي ليس في الدخول في مغامرة مجنونة يغيب عنها المنطق العسكري والاستراتيجي والإنساني والأخلاقي، وحين نبدأ بدفع الثمن الذي لا قِبلَ لنا به، نتوسل للعالم أن ينقذونا مما نحن فيه فلا نجد من ينقذنا!
.. قضيتنا العادلة هي: حريتنا، وحدتنا، عيشنا بأمان، اقتصادنا الناجز، النضال انطلاقاً من القوة والعلم والاخلاق. حينها فقط سيكون أمامنا فرصة لاستعادة الحقوق.
ليتنا نفهم.