من هم “الشعبويون” وما الذي يفعلونه بنا؟

240

 

 

في اليومين الماضيين دلق علينا مئات بل آلاف “الشعبويين” كميات مهولة من قيء أفكارهم وآرائهم ومفرداتهم. وحقيقة أنه لولا أن الكثيرين منا يتأثرون بهم، لكان تجاهلهم أفضل وسيلة عملية للتعاطي معهم.

لكن من هم “الشعبويين” وما هي أبرز ملامحهم؟

الشعبوي يعتمد خطاباً يقوم على تقسيم المجتمع، يعشق الفرز الحاد بين الأفكار والأشياء والمفاهيم، يؤمن بثنائية “النخب الفاسدة” و”الشعب النقي المضحوك عليه”، أو ضحية المؤامرات الكبرى محلية ودولية. يؤمن بالخير المطلق والشر المطلق ويعيش وسط حالة من الاستقطاب الحاد لا يقوى على الخروج منها، يقدّم حلولاً سطحية لمشكلات معقدة، تراه في المجالس والدواوين يجزم بجمل يقينية، يزعم امتلاكه أدوات القضاء على الفساد والترهل وتحقيق العدالة الاجتماعية بجرة قلم. دائما يستحضر رموزه الدينية والقومية، ويوظفهم لحشد الدعم لفكرته، ويهاجم مؤسسات الدولة “قلم قائم” باعتبارها هياكل للتنفيعات وتخادم الشلل وأصحاب النفوذ، وأدوات للغرب وأمريكا واسرائيل.

ثمة فرق بالمناسبة بين الشعبوية والجماهيرية، وغالبا ما يُخلط بينهما. الجماهيرية تقوم على امتداد سياسي واجتماعي مستدام، تنبثق من رؤية حقيقية للإصلاح وتمتلك قواعد شعبية عريضة. أما الشعبوية، فعلى العكس، غالبًا ما تكون حالة طارئة تعتمد على استغلال المشاعر الجماهيرية دون تقديم مشروع سياسي واضح. والجماهيرية تسعى إلى بناء مؤسسات قوية، بينما تعمل الشعبوية على هدمها بحجة “إرادة الشعب”.

لسوء الحظ، وجدت “الشعبوية” في وسائل التواصل الاجتماعي في وقتنا الراهن أكبر وأوسع وأخطر منابرها عبر التاريخ، فأصبح للمختلين والسذّج وذوي العقد والكارهين وذوي الحسابات الغامضة والملتبسة منصات لضخ كميات هائلة من الخطابات التحريضية “الحربجية” المؤججة والتبسيطية في آن، ويستغلون الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لإثارة المشاعر الغاضبة ضد النخب السياسية وضد المؤسسات وضد الخطاب العقلاني الهادئ المتزن، الذي أصبح ينظر له على أنه خطاب منبوذ متآمر. ولسوء الحظ أيضاً أن هذا الخطاب قد يستهوي بعض المثقفين من “حصّادي اللايكات” فيجد الجمهور نفسه محاصرًا بسرديات متناقضة.

في اليومين الماضيين أمطرنا الشعبويون العرب بتصنيفات مقززة مكرورة مثيرة للغثيان، يُراد منها هز ثقتنا بالدولة، قيادة ومؤسسات، وكان بيننا من انطلى عليهم هذا الخطاب، فعادت بعض المحنطات والمكلّسات العربية القديمة، عن الدور الوظيفي للأردن، ودور قيادته في حماية اسرائيل وضياع القضية الفلسطينية. رغم أن التاريخ والوقائع والشهادات من الأعداء قبل الأصدقاء تنفي كل هذه الترهات. كثيرون استحضروا خطاباً دنيئاً شعبوياً تافهاً لـ “زعيم” مثل عبدالناصر وهو يشتم قادة الأردن، دون أن يسأل أحدهم عن دور عبدالناصر هذا وزبانيته وشعبويته في تدمير مستقبل شعوب بأكملها، وكيف شكلت ظاهرته أداة لوأد مشاريع النهوض والتقدم والازدهار الذي تستحقه شعوب هذه المنطقة.

يُراد لنا أن نؤمن بقدسية قادتهم بل قل “آلهتهم” في سوريا ولبنان واليمن والعراق وليبيا، وحال هذه الدول أكبر شاهد على تهافت خطابات هؤلاء القادة ودورها في تدمير بلادهم.

يُراد لنا أن نبايع قادة تاريخيين تاجروا بالدين وبعواطفنا، وقدموا للعالم أبشع صورة لنا، صورة جعلتنا شعوباً لا تقيم وزناً للقيم والاخلاق والإنسانية ولا نعبأ بالمواثيق ولا نحترم الاختلاف ولا التنوع العرقي والديني والإثني والعقائدي.

ما زال بعضنا يؤمن بهذه “العشبويات” المدمرة. دققوا في عدد مشاهدات شخص تافه لا يملك سوى النباح والشتم مثل معتز مطر.. فعلاً هذا زمن أغبر!. زمن فيصل القاسم وخديجة بن قنة ومحمد ناصر وعبدالملك الحوثي .. والقائمة تطول وتطول.

عزيزي القارئ، أنا لست هنا لأدغدغ عواطفك بكلام شعارات مجتر مكرر ثبت فشله ونعيش جميعاً عواقبه الوخيمة وتداعياته المرعبة، في كل حين، وقد نعيش ما هو أصعب في مقبل الأيام بسببها، ولا أكتب استمطاراً لـ “اللايكات والتفاعل”، بل لأدعوك للتفكير ملياً، بكل هذا الإرث التدميري العربي الخالص، لتفتح قلبك وعقلك على كل الآراء والأفكار بعيداً عن التصنيف السريع والهادر لكل شيء. وفي زمن “السوشيال ميديا” إياك أن تكون سريع الاشتعال، إياك أن تتجاوز عن المتون وتكتفي بالعناوين لتصنع منها صواريخ وقنابل تقذف بها بوجوهنا عبر “فيس بوك” يميناً وشمالاً. والأهم إياك أن تكن أداة لهدم بلادك، وفي غالب الأحيان “دون أن تدري”.

عبدالله بني عيسى 

 

قد يعجبك ايضا