“بوب ودورد”.. هل فعلاً ثمة ازدواجية في الخطاب؟
دائما كان هناك مسافة بين الأنظمة العربية والشعوب، تضيق وتتسع حسب الظروف والمعطيات، لكنها لم تغب يوماً. وبخلاف الاعتقاد الكاسح بين الشعوب العربية بأن مرد ذلك يعود إلى عمالة تلك الأنظمة وتبعيتها للغرب، فإن غياب تلك الشفافية يكشف عن جوهر وعمق المشكلة العربية، أو لأقل المشكلة المنهجية في بنية العقل العربي، التي أنتجت فشلاً شاملاً على جميع المستويات.
نحن العرب نتقن التعبير عن الألم ونحدد مواضعه في أجسادنا؛ نصرخ ونتألم ونتأوه، لكننا نفشل دائما في تشخيص أسباب الألم، نعالج العرض لا المرض. يسهل علينا مثلاً حين نقرأ لصحفي أميركي يكشف عن تصريحات لقادة عرب قيلت في جلسات مغلقة، أن نسب ونشتم ونلعن ونتهم كل هؤلاء بالخيانة، ونرتاح حين نتبرأ من الخيبات المحيطة بنا وتخنقنا بإلقائها على الأنظمة. مع أن التوصيف الدقيق لحالة الفشل المريع التي يعاني منها العرب، تتجاوز ما تفعله الأنظمة بكثير لتصل إلى فشل المجتمعات بأكملها. لا بل إن الارتباك الذي تبديه الأنظمة، والذي من مظاهره، ازدواجية الخطاب على نحو ما نسمع، هو مظهر من مظاهر الفشل المجتمعي الواسع، الذي تكون الشفافية والوضوح من أول ضحاياه .
وللتوضيح، فإن مفهوم “فشل المجتمع” يختلف عن فشل الدولة أو النظام أو الشعب؛ إذ إن الفشل المجتمعي يمثل تراكمًا لمظاهر الفشل المختلفة، وهي حالة يكاد العرب يتفردون بها عالمياً. وهذا يدخلنا إلى كنه الأزمة أو أم الأزمات. وهي تتصل بتركيبة العقل العربي المليء بالتشوهات القيمية والأخلاقية والمتناقض والمتصلب على نحو أقرب إلى الفاشي. ولنتطرق إلى مظهر واحد فقط من مظاهر الفاشية في العقل العربي لأنه يناسب المقام. وهو عدم قبول الاختلاف، أو قل رفض المختلف رفضاً وجودياً لا تكتيكياً.
لو سلمنا جدلاً بصحة ما ورد في كتاب بوب ودورد، مع أننا نمارس واحداً من تشوهات العقل العربي، حين ننتقي ما نريد تصديقه من الكتاب ونرفض الكثير مما ورد فيه لعدم تطابقه مع الرواية التي نصدقها بل ونقدسها، في انعكاس واضح لاشكالية “عقل المجتمع المأزوم” أو “العقل المأزوم”. أقول: لو سلمنا جدلاً بذلك، فإلى أي حد شكلت تلك المعلومات نقيضاً صارخاً لما يدور في الشارع العربي؟ وقبل أن تسارع في الإجابة وتقول إلى حد بعيد، على اعتبار أن الشعوب العربية “كلها” في وادٍ آخر غير ذاك الواد، دعني أسألك: ومن أين أتيت بهذه الثقة؟ هل تملك الشعوب العربية التعبير بحرية مطلقة عن رأيها؟ ألا يحصّن الخطاب التعبوي الحربي الصدامي نفسه بالمتاريس حين يرفض الاستماع للآخر بدعوى تصادمه مع “المقدّس”، بل ويتهمه بالخيانة والصهينة والعمالة هكذا بكل بساطة!!. وأكثر من ذلك: هل يملك المعارضون، كثر عددهم أو قل، الفرصة لتدشين حوار معمق صريح وواسع حول جدوى المقاومة على طريقة حماس أو حزب الله مثلا دون يتهموا بالخيانة والعمالة!.
قبل أن نختبر رأي الشعوب في أمر ما يجب أن يحظى الجميع (المؤيدون والمعارضون) بفرص متساوية لنقاش وحوار جريء لا يتردد في الاستماع للآخر، حتى لو نزع هذا الآخر القداسة عن الرموز والقادة الميدانيين وزعماء الميليشيات والطوائف والأفكار والايدولوجيات التي لها تأثير مباشر على حياتنا، ويحاكمها محاكمة تاريخية علمية منطقية. حينها فقط يمكن أن نقول إن لمجتمعنا رأي واضح حيال مسألة ما، وحينها أيضاً يمكن قياس المسافة الحقيقية بين العشوب العربية والانظمة.
هذا المنشور لا يبرر لأي نظام عربي مواقفه وتصريحاته بخصوص اسرائيل وحربها على غزة، لكنه محاولة متواضعة للغاية للتأشير على حقيقة المشكلة الأزمة، أو التأشير على كنه المرض لا العرض، للطرق على رؤوسنا بعنف ولو كان ذلك شديد الإيلام.
عبدالله بني عيسى