أمام تهديدات ترامب لكندا..الملك تشارلز بين الحياد والتقاليد والتأثير الصامت
بصفته رئيساً للدولة، لا شكّ في أن تشارلز الثالث يواجه دعوات مطالبة بمنح كندا دعمه في مواجهة تصريحات ترامب.
لم يكن أحد يتوقّع أنّ كلام الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام رئيس الوزراء السابق جاستن ترودو بأن كندا يجب أن تصبح الولاية الـ51 مجرّد “مزحة”، فتحوّلت هذه الدولة الجارة هدفاً للسياسة الأميركية في ولاية ترامب الثانية، وسط صراع تهديدات بحرب تجارية ورسوم جمركية وكلام عالي النبرة.
وعلى إيقاع طبول هذه الحرب وقرار أوتاوا المواجهة دفاعاً عن الوطن والسيادة، تعود إلى الواجهة سلطة ملك بريطانيا تشارلز الثالث وهو يمثّل رئيس كندا. فأين العاهل البريطاني من حرب ترامب وأطماعه؟ وهل من دور ليقوم به دفاعاً عن كندا؟

ترامب قرّر… وكندا ردّت بـ”لا”!
قالها ترامب: “كندا دولة يجب أن تكون ولاية. استغلت الولايات المتحدة لسنوات ولن نسمح باستمرار هذا الأمر. ستكون ولاية عظيمة”، مضيفاً: “إن لم تكن ولاية، فأنا لا أريد أن أنفق مئات الملايين من الدولارات هناك، وإذا أصبحت ولاية، فإنّ الكنديين سيدفعون ضرائب أقل بكثير”.
على وقع هذا الحسم الأميركي، أعلن سيّد البيت الأبيض في 2 شباط/فبراير فرض رسوم جمركية على واردات الولايات المتحدة من كندا، بالإضافة إلى المكسيك والصين.
تسارعت الأحداث في الداخل الكندي، استقال ترودو في 6 كانون الثاني/يناير فاختار الحزب الليبرالي الوسطي مارك كارني رئيساً جديداً للحكومة مؤدّياً اليمين الدستوري في 14 آذار/مارس وأعلن تنظيم انتخابات برلمانية مبكرة في 28 نيسان/أبريل. هو حديث العهد في السياسة رغم خبرته الدولية الواسعة بعد تولّيه منصبي حاكم بنك كندا ثم بنك إنكلترا.
في خطاب إلى الأمّة، أكّد كارني الحاجة إلى “تفويض قوي” لمواجهة تهديدات ترامب الذي “الذي يريد تحطيمنا كي تتمكّن أميركا من الاستحواذ علينا ولكن لن ندعه يفعل ذلك. نحن نواجه أكبر أزمة في حياتنا بسبب الإجراءات التجارية غير المبرّرة لترامب وتهديداته لسيادتنا”.
التاج البريطاني…
بعد قصّة “الجنون الترامبي” بوجه الجارة الشمالية، لا بدّ من التذكير بأن كندا تشكّل إحدى الدول الـ15 الخاضعة للتاج البريطاني إلى جانب المملكة المتحدة، أستراليا، نيوزيلندا، جامايكا، باهاماس، بليز، بابوا غينيا الجديدة، سانت كيتس ونيفيس، أنتيغوا وباربودا، سانت فنسنت وجزر غرينادين، سانت لوسيا، غرينادا، جزر سليمان وتوفالو، وهي بالتالي دول تعترف بالملك البريطاني رئيساً للدولة ولكن ليس لديه سلطة حقيقية فتُدار كل دولة بشكل مستقل عن الملك ولها حكّامها المنتخبون وقوانينها.
حالياً تمثّل الملك تشارلز الثالث في كندا الحاكمة العامّة ماري سيمون.ويقوم الحاكم العام الذي يعمل ممثّلاً للتاج البريطاني بتنفيذ المهام الاحتفالية اليومية التي يُتوقّع من الملك/ة القيام بها عادة، ويمكن أن تشمل تلك الواجبات تعيين الوزراء والسفراء أو منح الموافقة الملكية للتشريعات.
كندا… النظام والحكم
كندا دولة فيديرالية يحكمها نظام ديموقراطي برلماني وملكية دستورية.
يقود البلد رئيس الوزراء الذي يحظى بثقة مجلس العموم المُنتخب ويكون زعيم الحزب السياسي الذي يتمتّع بأكبر عدد مقاعد في المجلس. يعيّنه الحاكم العام وفق الأعراف الدستورية.
يتكوّن البرلمان الكندي من مجلس الشيوخ، يعيّن الأعضاء الـ105 فيه الحاكم العام بناءً على اقتراح من رئيس الوزراء، ومجلس العموم الذي ينتخب أعضاءه الـ338 مباشرةً المواطنون في انتخابات كل 5 سنوات.
هي ثاني أكبر دولة في العالم مساحة، ثنائية اللغة (الإنكليزية والفرنسية)، تقع في القسم الشمالي من قارة أميركا الشمالية، حصلت على الاستقلال الذاتي عام 1867، وأصبح لها دستور مستقل عن بريطانيا للمرّة الأولى عام 1982.
“يجسّد الملك في كندا الدولة وهو رمز الولاء والوحدة والسلطة لجميع الكنديين” وفق موقع الملكية البريطانية.
ويقسم المشرّعون والوزراء وأفراد الجيش والشرطة بالولاء للملك، ويقسم جميع المواطنين الكنديين الجدد بالولاء للملك/ة، وتنظّم الانتخابات وتصدر القوانين باسمه.
عن دور الملك…
بصفته رئيساً للدولة، لا شكّ في أن تشارلز الثالث يواجه دعوات مطالبة بمنح كندا دعمه في مواجهة تصريحات ترامب. إلّا أن متحدّثاً باسم قصر باكينغهام قال لوكالة الصحافة الكندية إن تهديد ترامب “ليس أمراً نعلّق عليه”.
“عدم التعليق” أو “صمت” الملك تشارلز يتماشى مع تقليد الملكية في الحياد السياسي، خاصّةً تلك التي تتعلّق بدول الكومنولث.
غير أن صحيفة “التايمز” البريطانية كشفت عن أن الملك قلق بشأن الخلاف بين كندا والولايات المتحدة، وهي قضية “تشغل باله بشكل خاص”. وقال مصدر مقرّب منه: “الأمور تسير كالمعتاد، ولكن مع تزايد أهمية كل شيء. كندا تحديداً حاضرة في ذهنه. بالطبع، يعلم أنّه يجب أن يضع في اعتباره كونه رئيساً للدولة في المملكة المتحدة ورئيساً للدولة في كندا، بالإضافة إلى كونه رئيساً للكومنولث. يتطلّب الأمر ديبلوماسية دقيقة، نظراً إلى عدم توافق مصالح الجميع”.
حتّى إن رئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر رفض حتى الآن انتقاد ترامب أو التعليق على كلامه بشأن كندا.
وبصفته ملكاً، يجب أن يكون “فوق السياسة” ولا يمكنه التصرّف من دون استشارة رئيس وزرائه، فستارمر “يركّز بشدّة على تحقيق علاقة تجارية إيجابية مع الولايات المتحدة”، وفق المحلّلة الملكية من تورنتو كارولين هاريس.
في 27 شباط/فبراير 2025، وجّه الملك تشارلز دعوة إلى ترامب “المعجب بالعائلة المالكة” لزيارته في زيارة دولة ثانية غير مسبوقة، قدّمها له ستارمر خلال زيارته الأخيرة للبيت الأبيض.
وفي كندا، كما في بريطانيا، يُلزم العرف الملك بطلب تصريح وزاري للتعليق على الشؤون الدولية. فيمكن للحكومة الكندية أن تنصح الملك تشارلز بالتنديد علناً بتصريحات ترامب إلّا أن هناك عرفاً آخر ينصّ على أن على الحكومات تتجنّب إحراج الملك، وهو قد وجّه لترامب دعوة رسمية لزيارة المملكة المتحدة، وقد يشكّل انتقاده أمراً مُحرجاً.
“دعم خفيّ؟!”
لم يتخلَّ الملك تشارلز ولا العائلة المالكة على ما يبدو عن كندا، فرغم الحياد السياسي الملزم به، استطاع العاهل البريطاني تمرير رسائل دعم.
في 3 آذار/مارس 2025، زار ترودو الملك تشارلز ولفت إلى أنّهما ناقشا “مسائل تهم الكنديين بما في ذلك، قبل كل شيء، مستقبل كندا السيادي والمستقل”. وفق صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، “التزم تشارلز نفسه الصمت، ما أحبط بعض السياسيين الكنديين الذين جادلوا بأنّه كان ينبغي عليه إعادة تأكيد سيادة كندا علناً. نظراً إلى دوره غير السياسي، لم يكن ذلك ليحدث. لكن رمزية الملك وهو يبتسم وهو يحيّي رئيس الوزراء الذي يشير إليه ترامب بالحاكم، لم تغب عن بال أحد”.
من جهتها، نقلت صحيفة “الغارديان” عن مصدر ملكي عقب الاجتماع مع ترودو أن الملك تشارلز “واعٍ تماماً لمسؤوليته العالمية ودوره الديبلوماسي الفريد وهو عازم على استغلال ذلك. بصفته رجل دولة عالمياً ورئيس دولة لكل من المملكة المتحدة وكندا، فإنّ دور الملك بالغ الأهمية، وجلالته عازم على القيام بدوره، ضمن المعايير المناسبة. دوره، بحكم الضرورة والالتزام الدستوري، تقديم إيماءات رمزية بدلاً من إبداء التعليقات. ومع أن الملك يجب أن يظل محايداً سياسياً إلّا أنّه قادر على تقديم النصح والتحذير لوزرائه بمن فيهم رؤساء الوزراء عند الضرورة”.

في 4 آذار/مارس، تفقّد الملك تشارلز حاملة الطائرات البريطانية “إتش أم أس أمير ويلز” بصفته قائداً للقوّات المسلّحة. وزيّنت الميداليات والأوسمة الكندية زيّه العسكري.
و في 10 آذار/مارس، ظهرت الأميرة كايت في حفل يوم الكومنولث وارتدت فستاناً ومعطفاً باللون الأحمر الفاقع مع مجوهرات من اللؤلؤ الأبيض، تُمثل ألوان العلم الكندي. خلال تلك المراسم، جلس الملك تشارلز على كرسي مصنوع من خشب البتولا الكندي، محفور على أرجله أوراق القيقب. وقد أصدر الملك قائمة تشغيل موسيقية من “أبل” تتضمّن أغنية لمايكل بوبليه، وهو من مواليد كولومبيا البريطانية.
وقد علّق المفوض السامي الكندي لدى المملكة المتحدة رالف غوديل على ذلك عبر “إكس” قائلاً: “لا شكّ في أنّها كانت ترتدي ألوان كندا. في الديبلوماسية، تُعدّ الرموز مهمّة”.
في 11 آذار/مارس، غرس الملك تشارلز شجرة قيقب حمراء ، الرمز الوطني لكندا، في قصر باكينغهام تكريماً لالتزام الملكة الراحلة إليزابيث بالحفاظ على الغابات وتوطيد الروابط بين دول الكومنولث.
– في 12 آذار/مارس، التقى ملك بريطانيا ممثّلين عن مجلس الشيوخ الكندي وقدّم سيفاً تذكارياً لغريغ بيترز، “حاجب العصا السوداء” (أحد كبار مسؤولي المراسم في مجلس الشيوخ)، بحضور رئيسة المجلس ريموند غانييه. وفي التقاليد الملكية، يُعدّ السيف رمزاً للسيادة.
أما في 17 آذار/مارس، فقد التقى تشارلز رئيس وزراء كندا الجديد، مرتدياً ربطة عنق حمراء. وقال وهو يرحّب بكارني في قاعة الاستقبال في قصر باكينغهام: “هناك الكثير لأُكمله”.

وقال مسؤولو قصر باكينغهام: “إنّ كل هذا كان ذا مغزى. تلميحٌ وإشارةٌ إلى كندا بأنّه في صفهم”، فيما ذكر مراقبو الشؤون الملكية أن “الملك تشارلز يُظهر دعماً خفياً لكندا بالطريقة الوحيدة المتاحة له نظراً إلى دوره المحايد سياسياً”.
إلى ذلك، نقلت “وول ستريت جورنال” عن وسائل إعلام بريطانية أن تشارلز يُعدّ عرضاً سرّياً لترامب لانضمام الولايات المتحدة إلى رابطة الكومنولث. ولفتت التقارير إلى أن “الانضمام إلى الرابطة قد يُخفّف التوتّرات بين الولايات المتحدة وكندا”.
حلم ترامب بـ”أميركا أولاً”… ودروس الماضي!
في حزيران/يونيو 1812، حاولت الولايات المتحدة غزو كندا لاعتقادها أنّه سيكون سهلاً نظراً لقلّة عدد سكّانها وقوّاتها الدفاعية لكنّها فشلت. فانتهت حرب امتدّت لسنتين في ذلك الوقت بين البلدين بتوقيع معاهدة “غينت” في كانون الأول/ديسمبر 1814. وتُعدّ الحدود الحالية بين كندا التي دعمتها بريطانيا ضد الغزو والولايات المتحدة إحدى نتائج تلك الحرب والتي ضمنت بقاءها دولة مستقلّة.
وقد سبق أن تحدّث ترامب عن استخدام “القوّة الاقتصادية” لجعل كندا الولاية الـ51 لكنّه لفت إلى أنّه لا يفكّر في استخدام القوّة العسكرية.
أمّا الملك تشارلز فبين دور “الإطفائي” و”الديبلوماسي البعيد عن السياسة”، لا دور سياسياً مباشراً له صحيح وسط الصراعات، إلّا أنّ “القوة الناعمة” سلاح قادر على استخدامه في الوقت المناسب، من خلال الثقافة والديبلوماسية الشخصية وحتّى الموضة.
وقد قال أحد مصادر قصر باكينغهام: “يُدرك الملك أن الإيماءات البسيطة تبعث برسالة مُطمئنة تُشير إلى إدراكه لما يجري حول العالم”.
ولكن يبقى السؤال الأبرز: أي شخصية سياسية كندية ستنجح في إفشال خطط ترامب وأطماعه؟
شادي طنوس
المصدر: “النهار”