الحالة الوجدانية لا تصنع مشروعاً سياسياً

90

تثبت جماعة الإخوان المسلمين أنها لم تتعلم من دروس التاريخ، ولا تزال تغيب طوعًا عن حصة “فقه الواقع”. فالتعاطف الشعبي، والوجدان الديني، وتأييد المقاومة، كلها أوراق اعتادت الجماعة اللعب بها، لكن دون أن تتمكن يومًا من تحويلها إلى مشروع سياسي ناضج ومستدام.
جاء بيان الجماعة، عقب كشف تفاصيل مخطط إرهابي خطير كان يستهدف أمن الأردن، ليؤكد استمرارها في توظيف أكثر الأوراق استثمارًا في سوق الشعبويات الأردنية: “ورقة المقاومة”. هذا التوظيف العاطفي، في سياق محاولة تبرير ضلوع أعضاء فيها بالإرهاب، وإن لبس لبوس النُبل، إلا أنه يتجاهل إكراهات السياسة، ومقتضيات الدولة، ومآلات المشاريع التي لا تنطلق من وعي بالتوازنات الوطنية والإقليمية.
لقد فشلت الجماعة، رغم خبرتها الطويلة في توظيف الرمزية الدينية، في إدراك أن الوجدان الديني الفطري المتجذر في المجتمع الأردني، لا يصلح لأن يكون قاعدة لبناء مشروع سياسي. الأردنيون متدينون بطبعهم، والعاطفة الدينية حاضرة في سلوكهم وخطابهم، لكنها لا تعني قبولهم بمشاريع تحكم تفاصيل حياتهم بنهج مؤدلج. حين صعد الإسلاميون إلى الحكم في تجارب سابقة، كان أول ما واجهوه هو رفض المجتمع لمحاولاتهم التدخل في الحريات، ونمط المعيشة، ومناهج التعليم، وحتى في ما يُقال ويُكتب.
هذا التباين يكشف الفرق بين مجتمع يحترم الدين، ومجتمع يُدار بالحكم الديني. فالأردنيون بطبعهم محافظون، لكنهم منتمون لدولة تأسست على التوازن، والاعتدال، والتدرج في الإصلاح، لا على القفز إلى المجهول أو الدخول في مغامرات عدمية المقدمات والنتائج.
وبذات السذاجة السياسية، يُراد اليوم تحويل موجة التعاطف العارم مع غزة إلى منصة سياسية. لكن ما لا يفهمه البعض، أو يتجاهله عمدًا، هو أن هذا التعاطف الصادق مع معاناة الفلسطينيين لا يرقى ليكون تفويضًا لمشاريع انقلابية أو عسكرية. الأردنيون يدركون أن الوقوف الأخلاقي إلى جانب غزة لا يعني التورط في أجندات قد تجر بلدهم إلى صراعات مفتوحة أو تعرّض تماسكه للخطر.
فالسياسة لا تُبنى على حرارة المشاعر، بل على عقل بارد، يعرف أين تقف المصالح، وكيف تُدار التوازنات. الوجدان الجمعي ليس بديلاً عن المؤسسات، والشعارات مهما كانت جذابة لا تصنع برامج حكم ولا تجيب عن أسئلة الواقع: ماذا عن الاقتصاد؟ عن الحريات؟ عن التعددية؟ عن علاقات الأردن الخارجية؟ عن موقعه في خريطة التحالفات العالمية؟
الأردن ليس ساحة بل دولة، لها مؤسساتها وهويتها المتماسكة، ولها شعب يريد أن يحيا بأمان واستقرار في محيط مضطرب. وكل محاولة لاختطاف وجدانه، أو مصادرة تعاطفه، تحت شعارات المقاومة، إنما هي قفزة فوق الدولة، وتجاوزٌ لحقيقة راسخة: أن بوصلة الأردنيين، وإن حرّكتها المشاعر، لا تحيد عن العقل.
وفي لحظة الصدام بين العاطفة والعقل، تنتصر الدول التي تعرف معنى التاريخ، وتقرأ جغرافيتها جيدًا، وتُصغي بعمق لصوت شعوبها لا لصخب الجماهير ولا لأبواق المذيعين الموتورين في محطات ممولة بشكل سخي، ولا لمن يعتلون “البكمات” للهتاف في مظاهرات يحضر فيها كل شيء، عدا الحكمة والاتزان.
عبدالله بني عيسى

قد يعجبك ايضا