العمى وتدوير الفشل

97

عبدالله بني عيسى

في واحدة من أكثر لحظات التاريخ العربي التباسًا، نقف أمام مشهد لا يمكن تفسيره إلا بالعودة إلى أنماط متكررة من الانفعال الجمعي وسوء تقدير الممكنات. ففي أوائل القرن العشرين، حين ملأ الغرب الفراغ بعد سقوط الخلافة العثمانية، اندفعت الشعوب العربية إلى الشوارع تصرخ بشعارات التحرير والنهضة، لكنها سرعان ما اكتشفت أن لا النهضة ولدت، ولا التحرير تم، لأن الأدوات كانت قاصرة، والتشخيص مختل، والعدو الحقيقي آنذاك لم يكن فقط خارج الأسوار، بل متغلغلاً في عمق البنية السياسية والاجتماعية والفكرية للمجتمعات نفسها، والنتيجة ارتباك أقام طويلاً وعرقل أي محاولة للنهوض، وتسبب بهزائم مروعة في مواجهات انتهت بنكسات ونكبات متتالية.
اليوم، وبعد قرن من الزمان، يعيد التاريخ نفسه بشكل مأساوي. الأمة العربية تعاني من انسحاق شامل؛ انسحاق حضاري وأخلاقي ومعيشي، لم يُبقِ لها وزنًا في ميزان القوى العالمية. إسرائيل، التي لم تعد تخفي مشروعها الاستيطاني والإقصائي، تمارس سطوتها في غزة والضفة بكل ما أوتيت من ترسانة عسكرية وسياسية وإعلامية، في ظل عجز عربي مدوٍّ.
هذا الواقع يستفز مشاعر العرب، لكن المفارقة المؤلمة أن كثيرًا من النخب والتيارات الشعبية لا تقرأ تفوق إسرائيل من باب التقصير الذاتي أو الخلل الداخلي، بل تعيد إنتاج سردية مريحة نفسيًا: “نحن ضحية”، “الغرب يتآمر علينا”، “الأنظمة الاستبدادية تمنعنا من النهوض”… وهي مقاربات تهرب من مواجهة الذات إلى تعليق الفشل على مشجب الآخرين.
في الأردن، المعادلة أعقد وأخطر. الدولة تجد نفسها أمام معادلة وجودية. من جهة، تدرك بدقة أن حل القضية الفلسطينية بشكل عادل لا يمكن أن يتم في ظل هذا الخلل العميق في موازين القوى. ومن جهة أخرى، تواجه استحقاقات داخلية خانقة: اقتصاد يعاني من اختلالات مزمنة، إدارة تحتاج إلى إعادة هيكلة، مشكلات معيشية لا ترحم، وضغوط إصلاحية على المستويات كافة.
وفي خضم ذلك، يرتفع منسوب التعاطف الشعبي مع غزة إلى حد يلامس الرغبة في الزج بالأردن في معركة كبرى قد تفضي إلى دمار البلد ذاته، وكأن الخراب الذاتي ثمن معقول ومقبول أمام الشعور بالعجز أو الصمت.
وهنا يبرز تيار مقابل ـ صادق في مشاعره ـ يتعامل بواقعية سياسية صارمة. تيار يرفض أن يتحول الأردن إلى ساحة تصفية حسابات إقليمية أو واجهة للمغامرة، ويصر على أن الدفاع عن فلسطين لا يمر عبر تدمير الأردن، بل عبر تحصينه أولًا. ورغم وجاهة طرح هذا التيار، يجد من يتهمه بالتخوين والتسحيج.
النتيجة؟ أن هذا الخطاب الواقعي، الرسمي أو الشعبي، يُصوَّر على أنه خيانة، ويُحمّل الأردن الرسمي وحده مسؤولية الفشل العربي المزمن، فقط لأنه لم يشأ أن ينتحر جماعيًا مع بقية الساحات.
ينبغي التوقف بتأنٍ أمام هذا التيار الصاعد داخل المجتمع الأردني، الذي يمثله طيف واسع من الأردنيين الذين يؤمنون بأن الأولوية الكبرى اليوم هي لبناء وطن آمن، مستقر، منتج، ناهض اقتصاديًا وحضاريًا، وطن يستثمر طاقات أبنائه وكفاءاتهم في مشاريع النهضة الحقيقية لا في معارك الاستنزاف المجانية. هذا التيار لا يُنكر حق الفلسطينيين في الحرية، ولا يزايد على أحد في إنسانيته، لكنه يرى أن الأردن يستحق أن يُصان، وان لا يُدفع إلى الهاوية تحت رايات مستعارة.
إن القول بأن “الأردن أولًا” لم يعد شعارًا مرحليًا بل حاجة استراتيجية، ليست في مواجهة أحد، بل لإنصاف الذات، وتحصين الكيان، والتأسيس لمستقبل لا يكون فيه الأردن وقودًا في معارك لا يُمسك بزمامها.
قد يعجبك ايضا