الجولاني وإسرائيل والمؤامرة الكبرى!

2

مرّة أخرى، تعود نخبة مثقفة وسياسية عربية لتتحدّث عن المؤامرة الكبرى التي نجحت في سورية برعاية أميركية صهيونية وبتواطؤ وإشراف تركي، وربما عربي وبتنفيذ إسلامي لتقسيم سورية، بل المنطقة، ولتهميش القضية الفلسطينية والدخول في حقبة “الهيمنة الإسرائيلية”. فما سقط ليس نظام الأسد، بل الدولة السورية، وأبو محمّد الجولاني وهيئته ليسوا سوى عملاء، أو في أحسن الأحوال “أحجار على رقعة الشطرنج”، تحرّكهم أصابع استخباراتية عالمية وإقليمية لخدمة مشروع الهيمنة الغربية والمخطّط الصهيوني القديم – الجديد في إعادة تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات طائفية وعرقية.

بسهولةٍ، في مثل هذه التحليلات (لا أقلّل من شأنها وأتفهم المخاوف والمبرّرات وراءها)، ستُستدعى عدّة مخططات دولية وغربية قديمة – جديدة تحدثت عن تقسيم المنطقة، بخاصة كبيرهم الذي علّمهم السحر، برنارد لويس. فقد قدّم في ثمانينيات القرن العشرين تصوّرات استشرافية لمستقبل المنطقة وخططاً، أو تنبأ بأنّنا أمام انهيار للنظام الذي تأسّس بعد الحرب العالمية الأولى، وأنّ مستقبل المنطقة سيشهد تغييرات كبيرة، وتحدّث، في محاضرات متعدّدة، عن الفسيفسائية العرقية والدينية والطائفية في المنطقة.

لم يدّخر بنيامين نتنياهو جهداً في تأكيد هذه النظرية، عندما سارع إلى استثمار الفرصة، بعد انهيار نظام الأسد، إذ قام بتدمير منهجي كبير لكل الأسلحة الاستراتيجية، وحتى التقليدية، ومخازن السلاح وسلاح الجو وسلاح البحرية السوري، ولم يُبقِ ولم يذر كل ما طاولته يده، محاولاً بذلك جعل عملية إعادة بناء جيش وطني في سورية وتطوير قدراته تتطلب سنين طويلة.

الخلل الجوهري، في الرؤية السابقة، أنّها تخلط الفاعلين بالسياقات، ولا تميّز بين الأسباب والنتائج بدرجة رئيسية، فهل من أوصل سورية إلى هذه المرحلة من الضعف والانهيار والتفكك هو المجموعات المسلّحة، أم النظام الدكتاتوري الدموي؟ لو كان هنالك نظام ديمقراطي تعدّدي يحترم الثقافات والاختلافات، ويقوم على إنسانية الإنسان وكرامته وحقوقه، ويسمح بقدر معقول من المشاركة الشعبية؛ فهل كان جيشه سيهرُب ويترك السلاح (كلّف ثروات طائلة على حساب الشعب السوري نفسه)؛ لو كان جيشه يؤمن بقضيته، لقاتل حتى النهاية دفاعاً عن وطنه، لو كان لدى رئيسه نفسه الحس الوطني والإنساني، ويؤمن بأنّ ما يقوم به فعلاً حماية بلاده، لما كان ليهرب مسرعاً تاركاً الجميع، بمن فيهم شقيقه وأبناء شقيقته خلفه.

لا شكّ في أنّ هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة استثمرت في حالة ضعف النظام، وأنّ هنالك أجندة تركية كانت تدعم تحرّك المعارضة (على الأقل في الوصول إلى مناطق واسعة من الشمال السوري)، وبلا شكّ أنّ إسرائيل كانت تريد قطع الطريق على “النفوذ الإيراني” وضمان عدم عودة تسلّح حزب الله، ذلك كلّه صحيح، لكنّه سياقات ونتائج لأسباب بنيوية كامنة في فساد الواقع نفسه.

المشكلة الأخلاقية في الرؤية السابقة أنّها تقفز عن قضية جوهرية، تمثّل الآفة الكبرى في العالم العربي؛ الاستبداد المدمّر والأنظمة البوليسية القمعية، وهي أساس البلاء والفساد والدمار؛ لا يمكن لنظامٍ يقوم على امتهان إنسانية الإنسان وحيونة الإنسان (كما كتب الأديب السوري ممدوح عدوان) أن يكون نظام تحرير لفلسطين أو غيرها، أو نظام ممانعة. هذه كذبة كبيرة وادّعاء سخيف، ومن يصدّق أو يركض وراءه من مثقفين ونخب عربية، لأي سببٍ كان، ليسوا فقط واهمين، بل مشاركون في تبرير تلك الجرائم الإنسانية العظمى، حتى لو كان تحرير فلسطين سيمرّ عبر تدمير الشعب السوري أو أيّ شعب، فهذا ليس مبرّراً أخلاقياً، وما كان يحدُث في السجون السورية من تعذيب وتدمير ممنهج لمئات آلاف من البشر لا يجوز أن يكون بالنسبة إلى المثقفين والباحثين والسياسيين الإصلاحيين في العالم العربي مجرّد “مسألة عاطفية”، بل هو حقل دراسي وبحثي مهم وخطير، ومن الضروري أن يأخذ قدراً أكبر من الدراسة والتحليل في الأوساط البحثية العربية الحرّة. وأدعو، في هذه المناسبة، المركز العربي لدراسة السياسات إلى أن يخصص حلقات دراسية وبحثية لهذا الموضوع المهم.

عن العربي الجديد

قد يعجبك ايضا