د. أحمد الشريدة مستذكراً علي عبنده .. رجل بحجم الوطن

44

كتب: د. أحمد محمود الشريدة – أكاديمي وباحث في حماية البيئة.

هو ذلك الإربدي الأسمر الذي لفحته شمس حوران واكتوت جبهته العريضة بنيران شمس “آب اللهاب”! ففي مدينة إربد الوادعة في سهول حوران وُلد “علي إبراهيم عبنده” عام 1932م، إربد المدينة المعلقة في براري الغيم، الموغلة في بؤرة الماء، التي لم يحن بعد لالتقاطها أو للاستماع إلى نومها الجميل فوق سرير السماء. وترعرع الشاب الحوراني الذي تزينت ملامحه بـ”قمح نوى”، “زيت الكفارات”، “كروم عجلون”، “بلوط الكورة” و”زعتر بيت راس والحصن”.

انتقل الشاب علي إلى بغداد، عاصمة الرشيد، لينهل من علمها في أصعب المواد العلمية، في علوم الفيزياء، وليحصل على شهادته الجامعية الأولى عام 1954م. ثم عاد إلى الوطن، فيستقبله دولة المرحوم الشهيد وصفي التل، وتبلغه أن الدولة الأردنية تحتاج إلى تطوير دائرة الأرصاد الجوية، فيرسله في بعثة دراسية إلى المملكة المتحدة، إلى لندن “مدينة الضباب”، ليحصل على درجة الماجستير من جامعة لندن عام 1966م، وعلى درجة الدكتوراه في علم الأرصاد الجوية عام 1969م.

وعاد إلى إربد، مرابع الطفولة والصبا، المدينة الصغيرة التي تضيء دواخلها بنور العلم والمصابيح، وبالغناء الرخيم وتعدد أسماء ساكنيها، والخرزات السبع والعاشقين، وأشجار التين والزيتون. هناك، رائحة لا يفسدها أحد؛ رائحة خبز الطابون البلدي الحوراني.

وتسلم بيرق المجد في دائرة الأرصاد الجوية في ظل ظروف سياسية واقتصادية صعبة كانت تعصف بالمنطقة كلها، واستطاع ذلك الشاب الحوراني أن يقود السفينة وسط تلاطم الأمواج العاتية ويوصلها إلى بر الأمان. استطاع، بالرغم من الإمكانيات المادية الشحيحة والمعدات الفنية البسيطة – ولا أقول التكنولوجية المتطورة – أن يقدم لنا خلاصة معارفه في علوم الطقس والمناخ والأحوال. وما زال كل الأردنيين يتذكرون حتى اليوم كيف كانوا يتمسمرون حول شاشة التلفزيون الأردني، وقبل انتهاء نشرة الساعة الثامنة مساءً، بانتظار طلة الدكتور علي عبنده في آخر النشرة ليطلعهم على آخر مستجدات الأحوال الجوية. ولا زالت صورة “المؤشر” في يد د. علي مطبوعة في أذهان الأردنيين، وهي تؤشر على الخريطة الجوية إلى “المنخفض الجوي الذي يتمركز فوق جزيرة قبرص”، حيث ارتبط اسم هذه الجزيرة باسم د. علي عبنده، أما إطلالته في بداية النشرة الإخبارية فكانت دلالة على منخفض جوي عميق مصحوب بجبهة هوائية باردة وثلوج فوق المرتفعات الشمالية وجبال “الشراه”، وكان يحرص كثيرًا على تقديم النشرة الجوية بنفسه على شاشة التلفزيون الأردني بأسلوب سهل وبسيط وميسر، بحيث يفهمه كل المشاهدين بغض النظر عن ثقافاتهم أو أعمارهم، مع الحرص الشديد على تفسير كل المصطلحات الفيزيائية التي لها علاقة بالطقس والأحوال الجوية صيفًا وشتاءً.

لقد عمل أربعين عامًا في خدمة الأرصاد الجوية الأردنية دون كلل أو ملل، وحتى بعد تقاعده استمر في الحضور والمشاركة في المؤتمرات والندوات وورش العمل، يعطي من علمه الوافر ولا يبخل على أحد بتقديم المعلومة الصحيحة.

وفي عام 2006م لبّى نداء ربه راضيًا مرضيًا، ولسان حاله يقول:

يا أردنيّات، إن أوديتُ مغتربًا
فانسجنها بأبي أنتنَّ – أكفاني
وقُلنَ للصحب: واروا بعضَ أعظُمِهِ
في تلِّ إربدَ.. أو في سفحِ شيحان.

تغمد الله الدكتور علي عبنده بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جنانه مع الصديقين والأبرار، وجزاه الله عنا خير الجزاء عما قدم لوطنه وأمته.

قد يعجبك ايضا