ما الذي نملكه لتجاوز المرحلة “الترامبية”؟

16

بداية، وكما يتفق غالبية المحللين في المنطقة والعالم، نحن أمام 4 سنوات مليئة بالتحديات، تبدأ في 20 كانون الثاني 2025، وتنتهي في 20 كانون الثاني 2029. ونحن في الأردن وبحكم الجغرافيا والديموغرافيا سنتأثر مباشرة بألسنة اللهب المتوقع لها أن تلفح وجه المنطقة إن لم تحرقها في هذه السنوات العجاف. لكن هل صحيح أن خيارات الأردن ضعيفة أو معدومة لتجاوز خطر الفترة “الترامبية”، أو في أقل تقدير عبورها بأقل الخسائر، وفقاً لما يذهب إليه بعض الكتاب والمحللين؟

دعونا في البداية نجمل مصادر الخطر الذي يتهدننا في الأردن، وهي اختصاراً على النحو الآتي:

أولا: المخاوف من إطلاق يد بنيامين نتياهو والمجموعة اليمينية المتطرفة في اسرائيل، للعبث بالخطوط الحمر في الملف الفلسطيني، واحتمالات إحياء مشاريع هالكة مثل “صفقة القرن”، وتعزيز المستوطنات وشرعنتها، وإحياء مخاطر التهجير القسري المباشر وغير المباشر، ما يعني حلاً على حساب الوطن الأردني، إلى جانب المساس بالدور الأردني التقليدي في الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس. فضلاً عن احتمالات القبول الاميركي باحتلال دائم لقطاع غزة.

ثانياً: تقليص المساعدات الأمريكية للأردن، فترامب أظهر في ولايته الأولى توجهاً لربط المساعدات بالدعم السياسي المباشر. صحيح أنه لم يبدي موقفاً واضحاً تجاه هذه المساعدات في ولايته الاولى، لكن عقلية رجل الأعمال قد تدفعه للتفكير بهذا الاتجاه. علماً أن الولايات المتحدة تلتزم بموجب مذكرة تفاهم بتقديم ما لا يقل عن 1.45  مليار دولار سنويًا حتى 2029.

ثالثاً: سياسة ترامب المتشددة مع ايران، قد تؤدي إلى تصاعد التوترات الإقليمية، مع وجود الأردن في موقع حرج جغرافياً واستراتيجياً، الأمر الذي ستستغله قوى مليشياوية في المحيط لخلق بؤر ساخنة على حدوده على نحو يتجاوز المستويات الحالية. يفاقم من هذا الخطر هشاشة بعض الدول المحيطة بالأردن.

رابعاً: عودة ترامب إلى الرئاسة، قد تحيي مجدداً مشاريع الاتفاقيات الإقليمية، التي قد تتجاوز مصالح الأردن، وتعرضه للضغط الاقتصادي والسياسي.

خامساً: أي تصعيد في المنطقة سيكون له تداعيات اقتصادية عدة، بينها:

– تضاؤل فرص تعزيز التجارة الأردنية مع دول الجوار، وارتفاع أسعار النفط.

– مخاطر العبث من قبل ترامب باتفاقية التجارة الحرة بين الأردن والولايات المتحدة، وهي الاتفاقية المهمة التي تؤهل الأردن لتصدير أكثر من 2 مليار دولار سنوياً.

– قد تواجه جهود وخطط الحكومة الأردنية “الجدية هذه المرة” لجذب الاستثمار الاجنبي المباشر للمملكة، مع استمرار التوترات في المنطقة والاقليم.

– تأثر النشاط السياحي بأي تصعيد أو توتر جديد في المنطقة، علماً أن الدخل السياحي للأردن تراجع العام الحالي بأكثر من 4 %.

لكن ما هي أوراق الضغط الأردنية للتعامل مع مثل هذه الظروف والتحديات الجدية. أظن ان الأمر يتطلب تفكيراً خارج الصندوق، ما دام أن اللاعب الأكبر في العالم شخص ملتبس ذهنياً ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته وقراراته، كما أن سلوكه العام يفتقد لنسق واضح، يمكن القياس عليه لقراءة تصرفاته المستقبلية. صحيح أن الدولة الأردنية لديها تقاليد راسخة ووازنة في التعامل مع الأزمات الدولية والإقليمية، وتتسم بالعقلانية والهدوء واللغة الدبلوماسية غير الصدامية، لكن الظرف ربما يتطلب الخروج “بحذر” عن هذه النطاقات التقليدية، ما دوام الهدف هو حماية الوطن الأردني، وهي الأولوية التي ينبغي أن تتجاوز كل الأولويات.

أولاً:  يخطئ من يظن أن الوضع الديموغرافي الحرج الذي خلقته الحروب والأزمات المحليطة بنا، هي مشكلة أردنية خالصة. فبمثل ما يتم تهديدنا به، يمكن لنا أن نهدد به المصالح الاسرائيلية والاميركية والإقليمية، أي يمكن استخدام السلاح ذاته الذي يهددنا به الآخرون. وهنا سأطرح عدة أسئلة افتراضية في هذا الشأن دون الخوض في الكثير من التفاصيل:

ماذا لو خطط الأردن للتصرف بملف اللجوء والتهجير بالطريقة ذاتها التي يفكر بها اليمين الاسرائيلي؟ ماذا لو جعل الأردن مشكلة الديموغرافيا مشكلة اسرائيلية بالمقام الأول؟ ماذا لو فكر الأردن بتغيير مسار التهجير ليتم بطريقة مغايرة لما يفكر به اليمين الاسرائيلي؟.
ماذا لو أكمل الأردن حلقات “قمة الرباط” 1947، وأطلق مفاعيل قرار فك الارتباط 1988 جميعها وأعاد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين إلى احضان المجتمع الدولية بكل أبعادها؟
ماذا لو تخلى الأردن عن فكرة العودة الطوعية للاجئين السوريين؟ ألا يعيد بذلك تشكيل المواقف الإقليمية والدولية بطريقة جديدة ؟.
ماذا لو تخلى الأردن عن قواعد “الاشتباك” الحالية في التعامل مع ملف التهريب؟ ألا يجبر دول المنطقة على إعادة حساباتها بما يراعي مصالح الأردن؟

سأكتفي فقط بهذه التساؤلات حتى لا نغرق في نقاشات جانبية غير ذات صلة.

ثانياً: لن يكون لإلغاء المساعدات الاميركية تأثير كارثي على بلد يقترض سنويا ضعف مبالغ المساعدات الاميركية، يعني مزيد من الاقتراض لتعويض مبلغ المساعدات لن يهدم الاقتصاد الأردني. لكن نفوذ الولايات المتحدة وحجم تواجدها، والمصالح الاسرائيلية ستتأثر إن طلب الأردن إلغاء الاتفاقية الخاصة باستضافة القواعد الاميركية على الأرض الأردنية، وإن طلب كذلك إلغاء اتفاقية الغاز، أو أحال مشروع قانون جديد لإلغاء معاهدة عربة إلى مجلس الامة.

ثالثاً: يكفي رفض الحظر عن تطبيق “تيك توك” في الأردن، وخفض الرسوم الجمركية على السيارات الصينية والانخراط بشكل أكبر في مشاريع طريق الحرير الصيني، لإرسال إشارات واضحة للولايات المتحدة بأن عليها أن تعيد تقييم علاقتها بالأردن.

ثالثاً: يمكن للأردن الانخراط في اتفاقيات شراكة واسعة مع دول الخليج بالذات. هذا النوع من إعادة تموضع العلاقة مع دول الإقليم يحد من قدرة ترامب على الاستفراد بالأردن في حال إحياء مشاريع السلام في المنطقة على حسابه.

رابعاً: أمام الأردن آفاق واسعة لتعزيز علاقاته بأوروبا وكندا واستراليا لتطوير مصدات فاعلة أمام غلواء السلوك الترامبي المحتمل، في حين يمكن إرسال رسائل أكثر خشونة لترامب بتطوير العلاقات مع دول مثل الصين وروسيا وحتى إيران.

خامساً: يمكن للأردن وفي سبيل التغلب على التحديات الاقتصادية المحتملة لاسيما تراجع النشاط الاستثماري والسياحي، تطوير مقاربات محلية متعددة وتصيب الهدف مباشرة، بقرارات جرئية تحفز النمو الاقتصادي وتعزز ثقة المستثمر المحلي ببلاده، وتساعد الفئات الضعيفة على تجاوز الأزمة على غرار مقاربات كورونا.

سادساً: ولعل هذه هي النقطة الأهم، الالتزام التام بمقولة الملك في خطابه الأخير في افتتاح البرلمان ” نحن دولة راسخة الهوية لا تغامر في مستقبلها”، مع دعوة الجميع مواطنين ومؤسسات حكومية وأمنية ومنظمات مجتمع مدني وأحزاب ونقابات للاضطلاع بأدورانا الوطنية المطلوبة في هذا الظرف الحساس. واليقظة أمام كل الطروحات التي تقدم أحياناً من أطراف داخلية إما بحسن نية أو بغير ذلك لتقديم بلادنا قرباناً على مذبح العنتريات واللغة غير الواقعية والأوهام والخرافات المدمرة.

سابعاً: من وحي النقطة الأخيرة ينبغي التأكيد على أن الأردن بلد لديه كامل الأهلية والشرعية والقوة ومكتمل المؤسسات، ولديه الآليات الواضحة لإعادة الأمور إلى نصابها في أي لحظة يشعر معها بأن فوضى الإقليم بدأت تنتقل إليه، حتى لو كان الثمن تعطيل أو تجميد برنامج الاصلاح السياسي.

رغم كل ما سبق، وعلى سبيل التفاؤل، لابد من التأكيد بأن نيران الفترة الترامبية وتبعاتها الكارثية علينا ليست حتمية أو قدراً لا يمكن تجنبه، بل ثمة من يقول إن وجود رجل قوي مثل ترامب، يمكن أن يجعله الشخص المناسب لفرض حلول سلمية على اطراف الصراع، لاسيما اسرائيل، التي أظهرت تمرداً غير عادي أمام إدارة ديمقراطية ضعيفة ومهلهلة ومترددة رغم ما قدمته هذه الادارة لاسرئيل ورغم شراكتها المباشرة في الحرب على غزة ولبنان. وعليه فإننا قد نشهر في فترة ترامب ما عجزت عنه الادارات الاميركية لعقود طيلة خلت.

لن يحشرنا ترامب في خانة “اليك” كما يتصور البعض، ولن تكون خياراتنا جميعها بين محصورة بين السيء والأسوأ. لدينا ما نواجه به تحديات السنوات الأربع المقبلة وما يزيد عنها كذلك. ينقصنا فقط مزيد من الثقة بأنفسنا وقدراتنا واهمية بلدنا ومركزيته.

قد يعجبك ايضا