هل البقاء على “الحافة” قدر أردني؟
منذ بدأت سنوات وعيي الأولى في الثمانينات وأنا أتشرّب فكرة أن الأردن بلد فقير بلا مصادر دائمة للدخل وبلا ثروات طبيعية، وبالتالي بلا أفق، والنتيجة أنني ولسنوات بقيت أشعر بأنني أعيش في لعنة “الأنصاف” في كل شيء، نصف وطن ونصف اقتصاد ونصف معيشة ونصف كرامة .. الخ.
أنا وأبناء جيلي ورثنا هذا الانطباع عن آبائنا وأجدادنا، وها نحن نورثه لابنائنا دون أن نفكر ملياً ولو لمرة واحدة بتأثير هذه الفكرة السوداوية أو السلبية على واقع البلاد.
علم النفس، يؤكد أن الأفكار السلبية التي يحملها الفرد عن نفسه أو عن بلاده يمكن أن تنعكس بشكل كبير على حياته الفردية وحياة مجتمعه. هذا التأثير يحدث من خلال عدة آليات نفسية وسلوكية واجتماعية تؤدي إلى تكريس تلك الأفكار على أرض الواقع، ما قد يخلق حلقة مفرغة من السلبية والفشل.
التفكير السلبي يجعل الفرد يتجنب المخاطرة أو تجربة أشياء جديدة، مما يحد من فرص النجاح أو التطور. ويؤدي إلى ما يُعرف بـ “الاستسلام المكتسب”، حيث يعتقد الشخص أن محاولاته لا جدوى منها، فيتوقف عن السعي لتحسين أوضاعه.
والأخطر، أن الأفكار السلبية تنتشر في المجتمع كعدوى، حيث يؤثر التشاؤم العام على الأفراد الآخرين ويجعلهم أكثر سلبية. وينتج عن ذلك بيئة تشجع على الشكوى واللامبالاة والتذمر المرضي، وبالتالي العزوف عن المشاركة السياسية أو الاجتماعية، وضعف القدرة على مواجهة الأزمات. ويكفي لتغذية هذه الحالة المرضية أحداث عرضية عادية تحصل في كل المجتمعات مثل حادثة انتحار لفتاة أو مقتل مطلقة أو اعتداء على موظف أو سرقة مركبة، فيتم تضخيمها كما لو أن القيامة قامت.
على المستوى الاقتصادي، فإن علم النفس وكذلك علم الاجتماع يثبتان أن المجتمعات التي يسودها التشاؤم، ينخفض لديها الاستثمار في المشروعات الفردية أو الوطنية بسبب الخوف من المخاطرة. فإذا اعتقد أفراد المجتمع أن بلادهم غير قابلة للتطور أو النجاح، فإن هذه الفكرة تؤثر على القرارات اليومية للأفراد والجماعات، مما يجعل الفشل أمرًا واقعًا. وهذا ما يفسر تردد الكثيرين من أصحاب الأموال في الاستثمار في البلد.
طبعاً، غالبية من يقرأون هذه السطور سيقولون فوراً، إنني أتجاوز عنوة عن الأسباب الحقيقية التي تجعل الأردنيين يشعرون بالتذمر المرضي والغرق في السوداوية. والحقيقة أن هذا الموقف هو آلية دفاع ذاتية عن النفس في محاولة لتبرير أي مشاركة في حالة السلبية والسوداوية.
ثمة دول عاشت ظروف الأردن، بل أسوأ بكثير، لكنها تجاوزت حالة الفشل والشعور بعدم الجدوى وغياب اليقين وضبابية المستقبل.
دعكم من أمثلة بتنا نعرفها ونرددها كثيراً كنماذج لدول عانت من دمار شامل في البنية التحتية وشيوع حالة من اليأس والاحساس بالفشل والهزيمة مثل ألمانيا، واليابان، وكوريا الجنوبية. خذ مثلا رواندا، هذا البلد عانى من حرب إبادة جماعية في 1994، حرب أهلية أودت بحياة أكثر من 800 ألف شخص. وانهيار الثقة بين مكونات الشعب الرواندي، ودمار اقتصادي واجتماعي شامل. انظر كيف نهضت من جديد وأصبحت نموذجًا للتنمية في إفريقيا.
تركيا التي يحلو لكثيرين منا اعتمادها كموذج للنهوض، عانت في أوائل الألفية الثالثة، من تضخم هائل وأزمات مالية متكررة في التسعينيات. ومن شعور عارم بالإحباط العام نتيجة الفساد السياسي وعدم الاستقرار. وها هي الآن تشهد نهضة اقتصادية كبرى.
لا أدري لماذا نتحدث دائماً حول هذه الدول باعتبارها أمثلة تؤكد أن الشعوب، مهما كانت غارقة في السوداوية، يمكنها النهوض مجددًا إذا توفرت الظروف المناسبة، لكن حينما يأتي الحديث عن الأردن نلقي عليه بكل ما لدينا من حمم اليأس والتشاؤم والحكم بأن هذه البلاد “لن تقوم لها قائمة”.
للأسف، كارثية هذا التشاؤم مصدرها أن هذه الأفكار السلبية تنتشر في المجتمع كعدوى، حيث يؤثر التشاؤم العام على الأفراد الآخرين ويجعلهم أكثر سلبية.
ما أردت قوله أن الشعور بعدم الاستقرار والسلبية ليس مجرد نتيجة لتردي الأوضاع، بل يمكن أن يكون محركًا أساسيًا لها وباعثاً على ديمومتها القاتلة. إذا تُرك هذا الشعور دون معالجة ومواجهة جرئية، فقد يتحول إلى حالة جماعية تُضعف البلد من الداخل وتنهش مقدراته.
هذه البلاد تعاني من مشكلات حقيقية وليست متخيلة، لكنها ليست مشكلات قدرية لا يمكن الانعتاق منها. أسوأ ما يحدث لنا هو أن نفقد الشغف والإيمان والثقة والحماس بكل ما لدينا.
نحتاج كدولة ومجتمع إلى بناء الثقة، والإيمان بأننا نستطيع تحقيق إنجازات ملموسة. نحتاج إلى تعزيز الخطاب الإيجابي الذي يعكس فرصًا حقيقية للتقدم، وإلى إطلاق مشاريع ملهمة تخاطب احتياجات الشباب والفئات الضعيفة، وتجعلهم يتمحورون حولها ويعطونها كل شيء من أجل تلبيتها. وهذه مسؤولية مشتركة يجب أن يساهم فيها المواطنون، على الأقل بخفض منسوب التذمر المرضي لديهم.
عبدالله بني عيسى