الشعب” أكثر إنباء من “النخب”.. مقال للكاتب أحمد أبو خليل
الصافي الاخباري – عمان
شهدت شوارع وسط عمّان اليوم مسيرة نظمها الإخوان المسلمون تحت عنوان “لا للتهجير”، في استجابة متأخرة للانتقادات التي وُجهت لهم بسبب غياب موقف واضح وسريع من القضية. وبينما حملت المسيرة شعارات تعكس موقف الجماعة، كان المشهد يحمل دلالات أعمق حول طبيعة التفاعل الشعبي والتنظيمي مع القضايا الوطنية والإقليمية.
في هذا المقال، ينقل الكاتب أبو خليل ملاحظاته حول أداء الإخوان في المسيرة، مقارنةً بالحراك الشعبي العفوي، متوقفًا عند مفارقات الشعارات والهتافات، وأسلوب الحشد والتنظيم، وموقع الحركة من المشهد الوطني. كما يأخذنا في جولة على السوق الشعبي الذي جاور المسيرة، حيث يتبدى نبض الناس بلغة أكثر صدقًا وتلقائية، من نداءات الباعة إلى زينة رمضان الحاضرة بقوة.
تفاصيل ومشاهد تعكس الفرق بين خطاب النخب وتفاعل الشارع، في قراءة لا تخلو من تأمل وسخرية هادئة.
تالياً نصل المقال:
“الشعب” أكثر إنباء من “النخب”.. مع الاعتذار للشاعر أبي تمام.
حضرت مسيرة الإخوان وسط البلد.. وكان لي بها مآرب أخرى.
(لا أنصح المنرفزين بالقراءة. فهذه مجرد ملاحظات هدفها زيادة الناتج الوطني من الروقان).
نظم الإخوان اليوم مسيرة وسط عمان بعنوان “لا للتهجير”، وكانوا قبلها قد تعرضوا لنقد وهجوم بسبب تأخرهم عن اتخاذ موقف واضح وفوري من قصة التهجير.
في كل مرة يتعرضون لهجوم، أشعر بالحرج من توجيه نقد متزامن، وذلك ببساطة لأني لست من خصومهم مثلما أنا لست من أنصارهم. وكثيرا ما لا أوافق على مفردات الهجوم عليهم. ولكن ماذا أفعل عندما يتوجب عدم السكوت؟ يصعب علي أن أكون شيطانا أخرس، ولا بالطبع شيطانا ناطقا.
مشكلة الإخوان أنهم مشغولون بأنفسهم فقط كتنظيم وجماعة، وباقي الأمور هي دوما في خدمة هذا الانشغال. ويستمر ذلك في الأوقات العادية كما في أوقات الأزمات.
في مجمل القضايا التي تشكل عناوين للتحركات الشعبية، فإن موقفهم يتحدد وفق علاقة العنوان بهم كتنظيم. حتى الصراع مع العدو، فهو مهم بالنسبة لهم فقط بحسب صلته بهم وبتنظيمهم. وما يتقنونه ويتحمسون له اليوم مثلا يتعلق بحماس فقط (حياها الله طبعا)، ولكنهم يدفعون بها نحو العصبوية التنظيمية، ويصرون على أنها لهم “شخصيا”، بدلا من جعلها عنوانا وطنيا للمقاومين.
ما يتعلق بالأردن وقضاياه، لم تتدرب انفعالاتهم على الإحساس العميق. هم يعلنون محبتهم بصورة أقرب إلى حالة “تبسمك في وجه بلدك صدقة”. لكنهم يستهدفون ثواب الصدقة أولا. والهتافات المستخدمة تحمل صياغة مرتبكة، هتفوا اليوم بعبارات مثل: “هاي الأردن قوية” أو “هاي الأردن منا وفينا”، وهي بتقديري صيغ ضعيفة وصعبة على الترديد. وقد استمعت فيما مضى لخطيب شهير عندهم يقول: “إنني أقول للاردن” او “أقول لهذا البلد”! وهي مفردات تنطوي على جفاء وجفاف. بينما يتقنون صياغة الشعارات ذات الصلة بحركتهم، وعندهم شعارات أخاذة وجذابة وذات موسيقى سلسة وسهلة الترديد.
مسيرة اليوم كانت متواضعة من حيث الحجم نسبة إلى كثافة الدعوة التي سبقتها. ولكني اجدها فرصة للإشارة إلى القطاع النسائي في الإخوان من حيث مهابة الحضور والتزامه وانفعال الاخوات المشاركات فيه. إذا يحدد لهن مساحة خاصة في جسم المسيرة، ويحافظن على سيرهن والتزامهن العالي من البداية حتى النهاية، بينما يشهد باقي جسم المسيرة انسحابات متتالية.
في المسيرات التي لا يكون حجمها بقدر الطموح، يتبع الإخوان تكنيكا خاصا. فلديهم علم أردني طويل، مكون من 12 علما فرعيا أصغر طول كل واحد 4 امتار، فيصبح طول الأعلام متصلة نحو 50 مترا يمدونها في الشارع، فتأخذ حيزا مما يجعل المسيرة تبدو طويلة، بما يتناسب مع التقاط الصور للإعلام، وهذا تكتيك مشروع طبعا، وهو من التكنيكات المستخدمة من قبل الجميع.
ألقيَت كلمة رئيسية دافعت عن غزة ومقاومتها وصمودها، كما قالت ما تريد قوله لطرفين: الحكم حيث أشادت بالموقف رسمي، وللمنتقدين رفضا لما مارسوه من مزاودة، وفق ما جاء في الكلمة.
في مقدمة المسيرة، حاول مشاركون من غير الاسلاميين تمييز حصتهم في المسيرة ولكن عددهم لم يكن مناسبا لهذا الهدف، فتفرقوا هنا وهناك، التقيت بالدكتور رياض النوايسة، أحد نبلاء النشاط السياسي (برأيي)، رافقته في طريق المغادرة، تبادلنا الرأي، ثم استأذنته بان لي مآرب أخرى من المشاركة.
إذ لا بد لي من متابعة سوق البسطات على امتداد الشوارع المجاروة. إنهم الصورة الشعبية التي أحبها واواظب على متابعتها منذ نحو ثلاثين عاما، على سبيل الهواية والشغل معا. لحم اكتافي من خير الاقتصاد غير الرسمي.
اليوم كان السوق الشعبي نشيطا جدا ومكتظا بالناس. يعود جزء من النشاط إلى اننا على أبواب رمضان. الجمهور منشغلون بالتجهيز. الأطعمة الخاصة لها حضور كبير وأساسي، وهذه المرة هناك حضور مميز لأشكال الزينة الرمضانية الشعبية. هي أقرب إلى الملامح المصرية رغم انها صناعة صينية! سمعت كثيرا من الأناشيد الدينية من أصول شامية وبعض المصرية.
نداءات الباعة أثناء عرض بضائعهم مصاغة بلغة وموسيقى ممتازة، هي في الواقع أكثر اتقانا وأكثر انفعالا من هتافات المسيرة. من الصعب نقل الموسيقى كتابة هنا.
مررت على سوق البالة، ليست هذه أيامه. مررت على ثلاث محلات ولم اعثر على غايتي. ثم ختمت بالوقوف قليلا مع شابين أنيقين يبيعان أصنافا من “المجوز” أو “اليرغول”. إنهما سوريان، في الأصل من ريف درعا، من قرية المزيريب، شعرت بانتماء مشترك معهما. يعملان في صناعة وبيع المجوز، يحضران أعواد القصب من وادي علعال شرق اربد، ويجففانها ويصنعان منها مجاوز ذات صوت شجي. إنهما يتقنان عزف بعض الألحان، وقد تعلما هنا. هما في السياسة يريان أن الوضع في سورية أحسن من أيام بشار، لكن ليس إلى الدرجة التي تجلانهما يعودان.
اشتريت من أحدهما “مفردا” أي نصف مجوز، يصلح للتزمير على سبيل تخفيف التوتر، من ضيم النخبة.