لماذا انخرط المثقفون العرب مجدداً في سوق “الشعبويات”؟

19

حرب غزة، أو الحرب على غزة، ولبنان لاحقاً، من الحروب التي ينبغي لها أن تهز أركان البنى الثقافية والمعرفية العربية وتعيد إنتاج أسئلتنا الكبرى حول أسباب هذا التردي، الذي انعكس هزائم مروعة وفشلاً مدوياً وإحباطاً كبيراً بين الشعوب العربية، فلماذا يغيب دور مثقفينا وكتابنا عن ممارسة النقد الذاتي العلمي وتقديم قراءات معمقة تشخّص الوضع وتضع الحلول؟ بل الأنكى أن كثيراً من هؤلاء وفضلا عن تخليهم عن هذا الدور، انخرطوا في ذات الأدبيات الشعبية لاجترار ذات السرديات المبنية على المظلومية التاريخية وغيرها لكسب الجماهير، في مجافاة مروّعة ومثيرة للاستفهام للدور المفترض للمثقف الذي يتعين عليه مواجهة مظاهر القصور والابتعاد عن الطبطبة الشعبوية واخفاء الأوساخ تحت السجاد.
تقدمة
بعد الهزيمة المدوية لليابان في الحرب العالمية الثانية خرج الكاتب والفيلسوف الياباني دايساكو إيكيدا بمقولة تركت أثراً عميقاً في المجتمع الياباني وحفزته على تجاوز آثار الكارثة النووية، إذ قال: “النجاح لا يُقاس بتجنب الهزائم، بل بمدى قدرتنا على النهوض بعد السقوط، وتحويل الألم إلى قوة تدفعنا للمضي قدمًا.”
شجّع المفكرون اليابانيون شعبهم على تبني نهجٍ يتجاوز الهزيمة، ويركز على استثمار الطاقة الناتجة عنها لتحقيق التفوق والنهوض، وذلك من خلال الإرادة والمثابرة في مواجهة الصعوبات. ومارسوا نقداً ذاتياً شجاعاً وليس شعبويا عابراً. دايساكو نفسه مثلاً، وجه نقده ليس فقط لمواجهة آثار الهزيمة العسكرية، بل أيضًا للنظر بعمق في الأسباب الثقافية والاجتماعية التي قد تكون ساهمت في ضعف المجتمع الياباني آنذاك. في رؤيته، كان يؤمن بأن المجتمع الياباني بحاجة إلى مراجعة شاملة للقيم التي اعتمد عليها، والتي أدت إلى تطرفٍ عسكري وغفلة عن القيم الإنسانية.
في ألمانيا، برز الفيلسوف كارل ياسبرس كمفكر بارز مارس النقد الذاتي بعد الحرب العالمية الثانية، وحثّ المجتمع الألماني على مواجهة آثار الهزيمة وعلى مراجعة الذات بشكل عميق. من أشهر مقولاته في هذا السياق:
“علينا أن نعترف بمسؤوليتنا الأخلاقية، وننظر في أعماقنا لنواجه الحقائق المؤلمة، فهذا هو السبيل الوحيد لبناء مستقبل مشترك يقوم على القيم الإنسانية.”
واعتبر أن مواجهة الحقيقة وتحمّل المسؤولية الجماعية هما عنصران أساسيان للانتقال من حالة الدمار إلى بناء مجتمع جديد قائم على السلام والحرية والعدالة. وكانت دعوته للنقد الذاتي الصريح وسيلة لإعادة بناء الثقة في ألمانيا وللمساهمة في تشكيل هوية جديدة للمجتمع الألماني مبنية على احترام القيم الإنسانية والتسامح.
انتهت الحرب العالمية الثانية في 1945. بعدها بثلاثة أعوام حصلت النكبة الأولى للعرب، تلتها النكبة الثانية في 1967 ثم توالت النكبات والأزمات والكوارث. وفي كل مرة كان مثقفونا يعيدون انتاج التفسيرات ذاتها للهزائم، وهي تفسيرات تحيل تلك الهزائم لعدو خارجي، خلافاً لما حصل في اليابان والمانيا. وإذا أردت أن تعرف نتائج تعاطي الطرفين مع الهزائم فالأرقام والحقائق أمامك ماثلة للعيان ولا تحتاج إلى قراءة.
مثقفونا
مثقفونا وسياسيونا استخدموا لغة شعبوية وغير علمية لتفسير نكبتي 1948 و1967 وسلسلة الهزائم والنكبات التي تلتهما، وتقديم تفسيرات مبسطة لها. غالبًا ما ركز هؤلاء على إلقاء اللوم على خيانة الأنظمة العربية أو المؤامرات الخارجية من دون التعمق في الأسباب الداخلية أو التطرق إلى النقد الذاتي. وعلى رأس هؤلاء جمال عبد الناصر، الذي يتعبره كثيرون مثقفاً فضلا عن كونه زعيمًا سياسيًا وقائدًا عسكريًا، فهو غالبًا ما ركز في تفسيره للأحداث على المؤامرات الغربية والصهيونية، وحمل المسؤولية لـ “الأنظمة الرجعية” في العالم العربي أو حتى القيادات العسكرية “التي خانت”، في خطابات مسجلة تلقى رواجاً شعبيا حتى الآن رغم سذاجتها وسطحيتها ومقدار العنتريات الفارغة فيها.
فبعد نكبة 1967، وجه عبد الناصر اللوم إلى القيادات العسكرية وإلى العمالة الداخلية، ولم يكن له سوى القليل من التفسير حول أسباب الهزيمة العسكرية على مستوى التنظيم والقيادة أو ضعف التخطيط الاستراتيجي رغم مئات الشواهد على ذلك، مثل اعطائه العلاقات الشخصية أولوية على التخطيط والتنظيم، ومثل التخبط في اشعال الحروب في اكثر من منطقة في نفس الوقت، وكذلك تجاهل التقديرات العلمية لقوة الخصم..الخ!. كما حاول تبرير الهزيمة من خلال دور القوى الكبرى في المنطقة، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، مما ساهم في نشر شعور بالظلم دون تقديم حلول عملية أو نقدية للأخطاء الذاتية.
محمد حسنين هيكل، أحد أبرز الصحفيين والمفكرين في مصر والعالم العربي، كان من المقربين لعبد الناصر، وعُرف بخطاباته ذات الطابع الشعبوي الذي يفسر الهزائم العربية على أنها نتيجة للمؤامرات الأجنبية، وفي تفسيره لهزيمة 1967، اعتمد على دور إسرائيل وحلفائها الغربيين في تفاقم الأزمة، واستخدم لغة شعبوية في العديد من كتاباته ولقاءاته التلفزيونية، حيث كان يركز على العوامل الخارجية مثل الضغوط الأمريكية على الأنظمة العربية، دون أن يتناول بعمق الخلل الداخلي في الأنظمة العربية مثل الاستبداد والفساد، وسوء التخطيط والتنظيم، والفشل في تقدير المواقف، والتخبط، والجنوح نحو استرضاء الشعوب حتى لو أدى ذلك إلى دفع أثمان باهظة، والانقسامات السياسية داخل المجتمعات العربية.
والحال نفسه وقع به مثقفون فلسطينيون وعرب ممن وضعوا اللوم على المؤامرات الصهيونية والانتداب البريطاني والدعم الاميركي، إلا أن الخطاب غالبًا ما كان يبتعد عن فحص الأسباب الداخلية التي ساهمت في تفاقم الوضع الفلسطيني، مثل انقسام الفصائل وضعف الجبهة الداخلية الفلسطينية في تلك الفترة، وضعف الهياكل البنيوية للمؤسسات العربية وهشاشة الدول ذاتها.
خلال فترة الستينات والسبعينات، ظهرت العديد من المقالات والكتب التي ألقَت باللوم على الأنظمة العربية الحاكمة، ووجهت انتقادات شديدة للقيادات العربية التي وصفتها بالـ “خائنة” أو “الضعيفة” التي ساهمت في الهزائم العسكرية ضد إسرائيل. ومع أن هذا النقد كان يسلط الضوء على قضايا محورية مثل الفساد السياسي والضعف العسكري، إلا أن التفسير الشعبي غالبًا ما تجاهل تعقيدات المشهد السياسي والعسكري وركز على تحميل الأنظمة الحاكمة وحدها المسؤولية، دون أن يتم التطرق لمراجعة الأفكار القومية والايدولوجيات الثقافية أو المواقف العسكرية على المدى البعيد.
بعض الكتاب الإسلاميين في العالم العربي استخدموا لغة شعبوية في تفسير الهزائم، حيث أرجعوا الهزيمة إلى الابتعاد عن الإسلام والضعف الديني للمجتمعات العربية. هؤلاء الكتاب كانوا غالبًا ما يركزون على الفساد الأخلاقي، و الابتعاد عن المبادئ الدينية باعتبارها الأسباب الرئيسية للهزائم العسكرية والسياسية، دون فحص عميق للأسباب الأخرى مثل التخطيط العسكري، ضعف التنسيق بين الدول العربية، أو تأثير القوى الدولية.
هذا لا يعني أن المثقفين العرب احجموا تماماً عن تقديم نقد ذاتي يبحث عن الأسباب الداخلية للهزيمة، فثمة من بادر وكتب وأشّر على نقاط جوهرية، معتبرين أن مشكلات العالم العربي لا تنحصر في التحديات الخارجية بل تشمل أيضًا مشكلات في بنية المجتمعات العربية، بما في ذلك الاستبداد السياسي، والجمود الفكري، والاعتماد على الأيديولوجيا بدلًا من العلم والمنطق. على سبيل المثال، كتب المفكر صادق جلال العظم كتابه النقد الذاتي بعد الهزيمة، حيث طرح فيه رؤيته حول العوامل التي ساهمت في الهزيمة، وحاجتنا إلى مراجعة شاملة للثقافة السائدة. لكن مثل هذه القراءات بقيت معزولة وواجهت نقداً شعبياً أكثر من النقد الرسمي. ما يثير العديد من الأسئلة حول طبيعة وأدوات هذا النقد والنقد المضاد، وهو ما احتاج على الدوام إلى مثابرة فكرية نوعية طويلة الأمد عجز مجتمعنا عن توفير البيئة الآمنة والحاضنة لها، وعجز مثقفونا عن تدشينها بطرق تلائم طبيعة مجتمعنا.
بعض المثقفين العرب، وخصوصاً في مصر رأوا أن نكبتي 1948 و1967 أظهرتا ضرورة مراجعة الخطاب السياسي العربي. وتحول هؤلاء إلى الواقعية السياسية، داعين إلى الاعتراف بالتوازنات الإقليمية والدولية، وتبنّي حلول واقعية وإصلاحية بدلًا من الشعارات المثالية. هذه المراجعات قادت إلى نقاشات حول قضايا مثل السلام مع إسرائيل وأهمية بناء مؤسسات قوية قبل أي مواجهة، لكن مثل هذه الدعوات واجهت سيلاً من التخوين والاتهام بالعمالة ومجاملة الغرب وسلسلة طويلة من الخشبيات الجاهزة. والحال نفسه إزاء نقد الاعتماد على الأيديولوجيا، فأدى ذلك إلى تهميش الأصوات التي نادت بالإصلاح العملي والممنهج، واستمر التركيز على شعارات شعبوية غير مدعومة بخطوات قابلة للتحقيق.
حربا غزة ولبنان
لنأتي إلى حربي غزة ولبنان الأخيرتين ولنحاول تحليل الخطاب الثقافي والإعلامي العربي من أكثر من زاوية:
أولا: بقي الخطاب السياسي والإعلامي يتسم بالشعبوية التي تركز على إلقاء اللوم على المؤامرات الخارجية والخيانة الداخلية أو على الأنظمة العربية المتواطئة، دون التعمق في تحليل الأزمات البنيوية التي تؤثر في الواقع الفلسطيني والعربي. على سبيل المثال، عند الحديث عن العدوان على غزة، كانت الرسائل الإعلامية تركز على حرب الإبادة والمؤامرات الصهيونية، والدعم الأميركي المباشر أو المشاركة الاميركية في الحرب، والتواطؤ الأوربي وازدواجية معايير العالم، والتخاذل العربي، بينما تم تجاهل العوامل التي تشمل الانقسامات الداخلية الفلسطينية، أو تأثير التحولات الإقليمية على القدرة على مواجهة الهجوم، أو دور إيران وصراع النفوذ والهمينة أو حتى رغبة بعض الشعوب العربية في الانكفاء على قضاياها، وهي رغبة بقيت محل تخوين وهجوم قوي دون التعمق في أسباباها الحقيقية. والأهم أنه تجاهل أو غيّب أي إشارة نقدية للمسؤول عن إشعال الحرب الأخيرة، بل تم اضفاء قدسية استثنائية على قادة ميدانيين “لا يأتيهم الباطل من أية جهة”.
ثانياً: من الأبعاد الشائعة في الخطاب العربي التركيز على الصمود والمقاومة باعتبارها الحل النهائي، دون النظر إلى ضرورة إحداث إصلاحات سياسية أو اجتماعية حقيقية. مثل هذا الخطاب يتجنب النقاش حول قضايا أكثر تعقيدًا مثل إصلاح النظام السياسي، وتحديث الاستراتيجيات العسكرية، أو التحديات الاقتصادية التي يمكن أن تؤثر على فعالية المقاومة في المستقبل. أو الاستقطاب الداخلي في المجتمعات العربية الذي يعطل أي محاولات إصلاح أو تعزيز الجبهة الداخلية.
ثالثا: تجاهلت القراءات النقدية لطريقة تعاطي الدول العربية مع هاتين الحربين، المشاكل الداخلية في الدول العربية مثل الانقسامات بين الأنظمة نفسها وعدم القدرة على الاتفاق على استراتيجية موحدة لدعم القضية الفلسطينية. كما تجاهلت الانقسام الفلسطيني، الذي أثر بشكل كبير على القدرة على التنسيق العسكري والسياسي و الضعف السياسي والإداري في قطاع غزة و الفساد في بعض مؤسسات السلطة.
رابعاً: ثمة حالة من رهاب الاتهام بالعمالة، او خيانة المقاومة، أو المساس بقداسة المقاومين، تأثر بها مثقفون كثر، جعلتهم يتجاهلون على نحو مستغرب عناوين واضحة تفسر حالة ازدواجية المعايير عند الحديث عن طريقة تعاطي الغرب مع حربي غزة ولبنان، أو بالأحرى تعيد قراءتها على نحو مختلف. قراءة لا تنسف مطلقا احتمالية ازدواج المعايير من الغرب، لكن تعيد توصيفها على نجو شجاع يقول لنا مثلاً: لماذا تتمكن اسرائيل من تقديم عشرات الآلاف من الضحايا على أنهم أهداف مشروعة للقتل، ونفشل في المقابل في تقديم تفسير مقنع لقتل 1300 اسرائيلي في هجوم 7 اكتوبر على أنه دفاع عن النفس!.

الخلاصة:
في جميع هذه الحروب والمنازلات التي خاضها العرب، كانت الطريقة العربية في التعامل معها ومع تداعياتها المروعة والكارثية شعبوية وغير نقدية، حيث يتم التركيز على إدانة العدوان الخارجي والتأكيد على البطولة والصمود في مواجهة العدو وضرورة الحشد لدعم المقاومة بالسلاح والمال، دون النقد الداخلي للأسباب التي قد تكون ساهمت في استمرار الأزمات أو الهزائم. اللغة الشعبوية تساهم في تحفيز العواطف لكنها غالبًا ما تغيب الحلول العملية والتعامل الجاد مع الواقع السياسي الداخلي، مما يعيق التطوير الاستراتيجي و الإصلاحات الجذرية المطلوبة في المنطقة.
إن استخدام الشعارات الفارغة الجوفاء غير المدعومة بتخطيط استراتيجي أو إصلاحات في معظم الحالات، يعزز التفسيرات الشعبوية التي تركز على المؤامرات الخارجية أو الخيانة الداخلية وتبتعد عن طرح حلول عملية أو نقد ذاتي حقيقي يساعد في تجاوز الأزمات. هذا النوع من الخطاب لعب دورًا في تقوية الخطاب العاطفي في السياسة العربية، لكنه في الوقت نفسه أهمل التعمق في الأسباب البنيوية التي يمكن أن تساهم في فهم أعمق لأسباب النكبات والهزائم، مما ساهم في عدم القدرة على بناء حلول حقيقية وفعّالة للمشاكل الداخلية في العالم العربي.
يمكن القول إن الدعوات للإصلاح الثقافي والنقد الذاتي لم تحقق نتائج ملموسة بسبب تداخل عوامل عدة، سياسية واجتماعية وثقافية. ورغم محاولات بعض المثقفين المتواصلة للتغيير، ظلت المجتمعات العربية تفتقر إلى البيئة الملائمة لتبني الإصلاحات العميقة، بسبب العقبات التي شملت القمع السياسي، وغياب الدعم المؤسساتي، والانغلاق الفكري، وثقل التقاليد الثقافية المحافظة، وإدمان البكائيات واللطميات، والتي تعكس فشلا مجتمعياً أكثر منه فشلاً هيكيلياً للدول القائمة على ضعفها.

ملاحظة1
هذا المنشور ليس دراسة علمية محكمة والتعميم المستخدم لغايات الاستدلال على الفكرة لا لتقديم أرقام واحصاءات.
ملاحظة 2
هذا المنشور استعان بالذكاء الاصطناعي جزئياً لاستحضار بعض الأمثلة.

قد يعجبك ايضا