السكرة والفكرة في الملف السوري
بعد اسبوعين بالتمام والكمال على سقوط النظام السابق في دمشق، أجدني لا املك ذلك التفاؤل الذي يملكه كثيرون في الأردن والمنطقة، مدفوعين بالرغائب والأمنيات والحسابات. وسيكون عليّ انتظار معجزة بل عدة معجزات ليتحقق الامل في سوريا موحدة، مستقرة، آمنة، لا تشكل خطراً على نفسها ولا على جيرانها، ويسودها العدل، والمساواة، دون إقصاء أو تهميش، أي دولة لكل السوريين.
المعجزة الأولى: تجاوز الحالة الطائفية والانقسامات العرقية والدينية. وبالإمكان رصد المخاوف سواء تلك التي في داخل سوريا، أو من خلال المواقف الدولية، من إمكانية إقناع جميع السوريين بانهم سواء، وأن العهد الجديد لن يكون فيه إقصاء لمكون أو دين أو عرق أو طائفة أو جنس. بالنظر إلى خلفية جبهة تحرير الشام، الفصيل رأس الحربة في اسقاط النظام.
المعجزة الثانية: أن يقنع ابو محمد الجولاني سابقاً، أحمد الشرع حالياً، العالم بأن المسافة بين الإسمين أبعد من كونهما اختلاف في الحروف، وأنه بنسخته الجديدة “الكيوت” “النفعي” “الملتزم بقضايا الوطن السوري” “المنفتح على جميع المكونات” “المسالم”، مختلف عن النسخة القديمة “المتطرف” الإرهابي” الإقصائي” “المؤمن بالعنف” “المسكون بالإقصاء” وأن عليه ان يثبت بأن يبطنه هو تماماً ما يظهره.
كان أحمد الشرع، يؤمن بتكفير المجتمعات الإسلامية والحكومات، والآن صار جزءاً من تلك الحكومات، فمن أين جاء بالتخريجة الفقهية لتسويغ هذا التغيّر الانقلابي الفكري. كان يؤمن بفرض الخلافة بالقوة، كيف أصبح يؤمن بالدولة الوطنية. كان يستخدم العنف المفرط أداة مشروعة لتحقيق أهدافه، ما الذي جرى ليصير مسالماً على هذا النحو!. كان يعادي الغرب ويعتبره عدواً للإسلام ويؤمن بشن “حرب مقدسة” ضده، فمن أين وكيف بنى قاعدته الفكرية الجديدة التي تسوّغ له الانفتاح على الغرب على هذا النحو. كان يحتكر تفسير النصوص الدينية، ويؤمن باستعباد النساء ويرفض التعددية المذهبية والدينية، وكان يستهدف أي شكل من أشكال التعايش مع المسلمين من الطوائف الأخرى (مثل الشيعة والصوفية) أو مع الأقليات الدينية الأخرى، مثل المسيحيين والإيزيديين، ويرونهم أعداءً يجب القضاء عليهم. بل كان يستهدف العلماء والدعاة المعتدلين، فأنى له أن يقنع العالم بأنه تخلى عن كل ما سبق.
بالنسبة أن يتحول شخص بهذا المستوى المتطرف فكراً وسلوكاً، في غضون 8 سنوات ليصير داعية سلام ووئام هو معجزة بحد ذاتها.
المعجزة الثالثة: سأفترض أن المعجزة الثانية تحققت، وتغيّر الجولاني أو الشرع فعلاً، فكيف سيقنع اتباعه كلهم بمسوّغات هذا التغيير. يعلم المتخصصون بالجماعات الإرهابية أن هؤلاء يمتلكون مخزوناً هائلاً من الأفكار الدينية المتطرفة المدعومة باسناد فقهي، على الٌأقل على صعيد التفسير للنصوص. وهي مسألة متشعبة ومعقدة ومتداخلة، فإن كان الجولاني أو الشرع بدّل كل تلك الأفكار والمعتقدات فكيف سيقنع بها كل اتباعه، وأتباع الفصائل الأخرى التي تتجاوز العشرين فصيلاً من التي شاركت في اسقاط النظام المخلوع.
المعجزة الرابعة: أن يتخلى كل السوريين عن أسلوب المغالبة والمكاسرة في الدعوة إلى بناء دولتهم الجديدة، بعيداً عن العنف والتفكير الفصائلي والتحشيد والتسلّح. كيف يمكن إقناع الأكراد بذلك، والدروز، المسيحيين، والعلويين، واتباع الديانات والطوائف الاخرى، واللادينيين، كيف يمكن إطفاء الغليان المستتر والظاهر من منبج إلى القامشلي والحسكة ودير الزور والقرداحة…
المعجزة الخامسة: أن تتخلى إيران عن التدخل في سوريا، هكذا بين يوم وليلة، وتستسلم لفكرة أن عليها احترام “إرادة الشعب السوري” كما تقول التصريحات الرسمية، وبان عليها أن تتجاوز الكلفة الباهظة التي دفعتها وهي تنخرط في مناصرة النظام السابق، وأن الفكرة الدينية الطائفية التي كانت وراء هذا الموقف، لم تعد تعني لها شيئاً.
كما أن على تركيا أن تؤمن بحق الأكراد في تقرير مصيرهم، وأن لا تتدخل في شؤون سوريا انطلاقاً من عقدتها التاريخية المتعلقة بالأكراد. وعلى العراق لا سيما المكون الشيعي المتطرف، أن يدع السوريين وشانهم.
لا أحب أن أبدو متشائماً، لكن بظني ان التفاؤل الذي يبديه كثيرون في الأردن، مبالغ به، بل ثمة مبالغة كذلك في محاولة دفع الدولة الأردنية إلى الانفتاح على السلطة الحاكمة في دمشق حالياً، بغض النظر عما سبق من معطيات.
في الأردن ثمة متحمسين للانحراط في مشروع جبهة تحرير الشام، رغم أن هذا المشروع لم تظهر معالمه بوضوح على صعيد بناء الدولة السورية، وهي المهمة الأصعب بكثير من مهمة اسقاط النظام. ثمة من يتحدث بافتتان شديد عن أحمد الشرع، ويستمد منه الإلهام وهو الذي لم نر منه سوى مقابلات إعلامية نحتاج إلى ما يقنعنا بانه لم يمارس فيها “التقية السياسية”.
لا ضير من الانفتاح التجاري والاقتصادي مع سوريا، ولا ضير من العلاقات المحسوبة التي تفيد مصالح الشعبين الأردني والسوري، لكننا نقول للذين يدفعوننا باتجاه الانخراط السريع في مشروع أحمد الشرع: دعونا نرى المشروع اولاً ثم لكل حادث حديث.
المسافة بين السكرة والفكرة، قد تكون كفيلة بالتهام ما بينهما من معطيات الواقع وتفاعلاته. ربما من المبكر اعتبار أن السكرة السورية انتهت وجاء وقت الفكرة، لكن العقل الهادئ لا يزن الأمور بانفعال، ويمكن له أين يرى الامور بعين المنطق، بعيداً عن التفاؤل والتشاؤم المفرطين دون سند.
عبدالله بني عيسى