الناجون من المكابس البشرية .. ماذا بقي منهم!
منذ أربعة أيام وقصص السجناء في سوريا تصدمنا بقسوتها وغرابتها، وترينا صنفاً من البشر لم نكن نظنه موجوداً إلا في أفلام الرعب وقصص مجاهيل التاريخ السوداء.
” تدمر العسكري”، “صيدنايا”، “فرع فلسطين”، “عدرا المركزي”، “حمص المركزي”.. ليست مجرد سجون بأسوار عالية وسجّانين غليظي القلب وسجلات تحيك الأحكام على عجل. إنها أقبية مظلمة باردة رطبة، تتلاشى فيها الأرواح والأجساد شيئًا فشيئًا، لا بفعل الزمن وحده، بل بقسوة الظلم وسطوة القهر والانتظار العاجز الذي يسرق كل شيء.
هناك، في صيدنايا الرهيب، كان العمر يتوقف عند لحظة الاعتقال، وهي لحظة قد تصنعها صدفة تافهة، أو مزاج شرطي وضيع، أو لعبة مسلية لضابط مهووس، فيتحول الإنسان إلى رقم بلا اسم. سمعنا كثيراً من سجناء يقولون إنهم كانوا أرقاماً، ظلوا كذلك عقوداً وهم يذوبون في عتمة لا نهائية.
قبل أن يدخلوا السجن كانوا مثلنا يحملون أحلامًا طرية. بعضهم كان يحلم بتأسيس بيت، زوجة وأطفال. بعضهم كان يطارد طموحاً غضاً كفراشة، وآخرون كانوا يعانقون أحباءهم في وداع لم يدركوا أنه الأخير.
اثنا عشر عامًا، ثلاثون عامًا، اثنان وأربعون عامًا، أرقام تقذف بوجوهنا بقي فيها المظلومون في العتمة يرون الموت كل يوم عشرات المرات ولا يدركه إلا من كان محظوظاً بينهم.. أرقام تخفي في طياتها أجيالًا كاملة مرت دون أن يراها هؤلاء، لمعة عيون شقيق في نجاح ما، أعياد ميلاد أحبة، مرض آباء وأمهات، غيابهم الأبدي دون وداع، رسائل حب لم تُكتب، وأعياد غابت عن دفء العائلة والضحكات واللمّات.
شاهدناهم وأبكونا وهم يرون الشمس في أرذل العمر، أجساد منهكة نحيلة شاحبة، بعضهم لم يتعرف إلى الضوء، وآخرون فقدوا الذاكرة أو القدرة على الكلام، وكثيرون يحملون أمراضاً خطيرة .. ماذا تبقى من هؤلاء؟ كيف يمكن لهم أن يعيدوا بناء أنفسهم بعد أن هدم النظام الوضيع ما تبقى من إنسانيتهم؟ كيف يعيدون زرع جذور في أرض سرقتهم لعقود ظلماً وقهراً؟
كل نظرة كل خطوة خارج السجن ليست حرية، بل مواجهة مع عالم لا يعرفونه. ومن أمسك منهم بما تبقى من عقله، سيظل يتلفت طويلا بين بيوت انهارت وأبواب صدئت، وأحياء رحلوا، وأحلام باتت أطلالًا. أيديهم التي كانت ترتجف شوقًا للحرية، وجدت أن الحرية نفسها أصبحت عبئًا جديدًا، تحتاج شجاعة لإعادة تعريفها. أحياء، نعم، لكنهم يحملون موتًا طويلًا في ذاكرتهم. موجودن خارج السجن نعم، لكنهم في الحقيقة ما زالوا هناك، في تلك الزنازين التي ابتلعتهم أجساداً وكرامة وكياناً.
سيقول بعضهم حين يستفيق من هول ما عاشه: “ربما كان الموت أرحم بنا”، سيتمنى البعض لو انه مات بمكبس بشري كالذي في صيدنايا أو بحبل الاعدام في فرع فلسطين أو بالتجويع والمرض في حمص المركزي، لو أنه كان رقماً آخر في قوائم المنسيين. سينظر كثيرون في المرايا فلا يرون سوى أشباح مهشّمة الأرواح كانت يوماً نابضة بالحياة قبل أن يأتي السجّان الملعون ليسلبها منهم.
عبدالله بني عيسى